رسالة إلى العرب.. أو من بقي منهم

0

منصف المرزوقي*

هذا النص ليس مرثية أخرى لأمة ‘غسل الله منها يديه’، كما قال نزار قباني. بل هو صرخة فزع أمام خرابها المتفاقم ونحن السواعد والمعاول.

أنظر انهيار استقلالنا؛ كانت لنا في القرن الماضي شعوب حية، واعية بتبعيتها، تحلم بالاستقلال وتناضل من أجله، وكانت لنا دول تمارس سيادتها. اليوم شعوبنا غير منشغلة ولا واعية بعمق تبعيتها العلمية والتكنولوجية والغذائية والسياسية، وكثير من دولنا سلّمت مصيرها للقوى الإقليمية والدولية. شعوب ودول تحت الوصاية، ومع هذا تحتفل كل عام بـ”عيد الاستقلال“.

أنظر انهيار مؤسساتنا المشتركة؛ أحسَن ما قيل في الجامعة العربية هو: “إكرام الميّت دفنه”. في الستينيات والسبعينيات دفنّا “الجمهورية العربية المتحدة”، ومشاريع الوحدة بين تونس وليبيا، وبين المغرب وليبيا. لنرفع أيدينا إلى السماء ترحُّماً على اتحاد المغرب العربي. وربما جاء دور مجلس التعاون الخليجي، لنقيم عليه صلاة الجنازة.

أنظر تسارع انهيار الأنظمة والدول؛ عايشنا تفكّك السودان والصومال، ونعايش تفكّك سوريا والعراق وليبيا واليمن. يخطئ من يتصوّر أن المسلسل لن يشمل دولا أخرى تظنّ نفسها مبنية لألف سنة مقبلة، وهي مدرجة على القائمة للعقود القليلة القادمة. الربيع العربي براكين ما زال الكثير منها لم ينفجر، ويحدثونك -لطمأنة أنفسهم- عن فشل ثورات في بداياتها.

أنظر حجم التهديدات على العمود الفقري لهذه الأمة: لغة الضاد؛ البعض يكتبونها بالأحرف اللاتينية والدارجات اليوم لغات الإنترنت، فلتتوقّعوا ظهور جماعات تطالب بالتدريس بها. انتظروا أول ‘ترجمة” للقرآن الكريم إلى الفرانكو/عربي والأنجلو/عربي والعبري/عربي. أليس من حق “الشعب” فهم كتابه المقدس؟ ألم يفعل ذلك مارتن لوثر عندما ترجم الإنجيل من اللاتينية إلى لغة أصبحت قائمة الذات وهي الألمانية؟ تلك مبرراتهم.

أنظر انهيار القاسم المشترك الآخر الذي كان يجمعنا؛ تراجع حجم الاهتمام العربي بمأساة فلسطين والأمة تغرق في مآسٍ أفظع، والمسؤولون عرب أقحاح. كم هو مخزٍ أن يتهكّم السوريون على إداناتنا الغاضبة للقمع الإسرائيلي، وأن يتمنوا أن ينعموا” بمثل هذا القمع، أمام ما أذاقهم إياه الجيش العربي المُمانع.

أنظر النزيف الهائل الذي يشكّله فرار غير مسبوق لملايين السوريين والعراقيين لأسباب سياسية، والمغاربيين لأسباب اقتصادية، بحثا عن وطن بديل..، أليس الوطن الحقيقي للإنسان هو الأرض التي يهرب إليها لا الأرض التي يهرب منها؟ انظر الآن تصاعد عدد هاربي الداخل من الانتماء العربي نفسه، وكأنّ الشعار: لا رهان على حصان خاسر يتعثّر من كبوة إلى كبوة.

في المشرق هناك صعود وتوسّع لمطالب كل القوميات والطوائف. أما في المنطقة المغاربية فلم يعد من الممكن الحديث عن “المغرب العربي” دون إثارة وابل من الاحتجاجات. وحتى في تونس؛ برزت جماعات تنكر عروبة البلد، والحال أن الناطقين بالأمازيغية لا يتجاوزون بضعة آلاف.

طالبني البعض -عبر صفحتي على الإنترنت- بالتخلي عن لبس البرنس وأكل الكسكسي لأنهما تراث أمازيغي. بل ثمة من طالبوني بالعودة من حيث أتيت، بما أنني أعرّف نفسي بأنني عروبي غير قومي. يبدو أن هؤلاء الإخوة يجهلون استحالة الأمر، و”المرازيق” من أحفاد بني سليم الذين استقروا في تونس مع بني عمومتهم بني هلال منذ سنة 439 هجرية (1047م).

لك أن تقول: وأين المشكلة؟ إن حظّي العاثر شاء أن تكون مرابض الأجداد قبل انطلاق تغريبتهم ما يسمى اليوم دولة الإمارات. ونظرا لكل ما قلته -وما سأواصل قوله- في حكامها؛ فإنّه جدُّ مستبعدٍ تمتيعي بحقّ أن أُمنحَ حق اللجوء، فما بالك بحق العودة. حقّا، إن شرّ البلية ما يضحك.

أين باب النفق بل هل ثمة منفذ أصلا؟ لا علاج لمرض لم تعرف أسبابه. ما أكثر ما بحثنا عن سبب نكبة النكبات… في أنظمتنا الاستبدادية… في العائلة الأبويةفي الطبيعة التي حبَتنا بكمّ هائل من الصحاري وحبت الأوروبيين والصينيين بكمّ هائل من الأراضي الزراعية… في برامجنا التعليمية التي تنتج العقول الفارغة والذوات المتورمة

في الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والمؤامرة الكونية… في سوء الطالع، والتاريخ أيضا ارتطام حزمة من الصُّدَف بحزمة أخرى، تولّد صُدَفا نسميها الأقدار. ربما شاءت هذه الأقدار اللعينة أن يموت لنا طفل في الخامسة بِلدغة أفعى غبية، وكان هو الذي سيلعب لدينا دور كمال أتاتورك الأتراك وماو تسي تونغ الصينيين.

الثابت أن حجم وتعقيد ترابط عوامل الكارثة يجعلنا عاجزين عن التشخيص الشامل. ومع هذا علينا أن نبحث -بسرعة محمومة- عن المَخرج، أملا في ألا يكون المصيرُ قد تقرّر ونحن عن الأمر غافلون متوهمون.

***

خبران: سيئ ومفرح، وسنبدأ بالسيئ.

قد نكون أمة بصدد الانقراض طِبقاً لقانون كوني: فكما يموت الفرد، تموت الأمم والحضارات وحتى الأجناس الحية. وقد عرف تاريخ الأرض -منذ خمسمئة مليون سنةخمسة انقراضات بالجملة (Mass extinctions) مسحت من وجه الأرض 80% من الأجناس الحية.

وذلك بسبب انفجارات براكين جبارة وتغيّر المناخ، أو اصطدام نيزك كبير بالأرض كما حصل منذ 65 مليون سنة فتسبّب في انقراض الديناصورات. وها إن بعض العلماء يقولون اليوم إننا دخلنا بالتغيّر المناخي مرحلة الانقراض السادس. وقد يكون انقراض العرب جزئية بسيطة داخل انقراض الجنس البشري بأكمله؛ فما الداعي للتهويل؟

الخبر الطيب: لا تنتهي موجة انقراض إلا وتدخل الطبيعةُ في زخم هائل من الخلق والإبداع، فتبرز كميات هائلة من الأجناس الحية الجديدة أكثر تنوعا وحيوية؛ وكأن القوة الخلّاقة -التي تتحكم في الكون- تريد تعويض الخسارة بما هو أحسن.

إنها نفس الظاهرة على مستوى الأمم والحضارات؛ لا تنقرض أي منها إلا وتعود القوة الخلاقة للبناء فوق الخراب، فتنتج ما هو أعظم وأجمل وأقدر على الاستدامة.

ماذا لو كانت العروبة القديمة هي التي نشاهد انقراضها، وعلى أنقاضها تعِدنا الحياةُ بعروبة جديدة؟ ما الذي يجعلنا نتشبث بدول مصطنعة وأيديولوجيات كاذبة، وبكل هذه الأوهام التي عشنا عليها قرونا ننتظر الخلاص من المستبد العادل أو من الدولة القومية الكبرى، أو من عودة الخلافة، فلا نحصد إلا الخيبة وراء الخيبة؟

لنقبل أن ما هو قابل للانهيار لا يستأهل أي مكابدة لإنقاذه من مصيره ولا التحسّر عليه، بل بالعكس؛ يجب أن نفرح بهذه الزلازل التي تدمر عالما آن رحيله، وأن نبتهج بما سيُبنى على الأنقاض.

هل بإمكاننا استقراء ملامح وتوجهات قوى البناء التي تتحرك داخلنا وتحركنا معبّرة عن إرادة الحياة وعنادها؟ نعم، شريطة أن نصمّ الآذان عن الصخب حولنا، وأن نُصيخ السمعَ للهمس المتصاعد من العقل الجماعي، وهو يبحث في كل اتجاه عن مشروع إنقاذ أمة من نفسها.

ثمة بداية بوادر ثورة في العقول، والمحرّك قطعٌ نهائي مع الحلول الجاهزة المعلبة. ثمة بداية لفسخ البرمجيات القديمة والتفكير من خارج الصندوق وأولاً، خاصة فيما يتعلّق بالأسس التي سنعيد عليها البناء برمّته.

لقد كان ولا يزال- تعريف العربي بأنه الشخص الذي يتكلم لغة الضّاد، أيا كان دينه وأصله ولونه. لهذا كان عبد الوهاب البياتي التركماني، والطيب صالح الأفريقي، والأمازيغي محمد عابد الجابري، وجبران خليل جبران المسيحي، وليلى مراد اليهودية، من أعلى منارات الثقافة العربية.

مثل هذا التعريف ضروري لأننا أمة تسكن فعلا لغة لا أرضا، لأننا أمة ثقافية لا أمة عرقية؛ لكنه لم يعد كافياً. أصبح عندنا اليوم ملايين يتكلمون العربية في المشرق والمغرب ولا يريدون تعريف أنفسهم بأنهم عرب. وفي المقابل؛ هناك ملايين المغتربين الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم عرب رغم أنهم لا يتكلمون العربية.

ثمة من لا يزالون مصرّين على أن الإسلام هو القالب الشرعي والوحيد لصهر كل هذه الشعوب وإعطائها هويتها الأساسية. وكما لم ينجح الأمر في الماضي، إذ تطورت الشعوبية إلى قوميات فارسية وعربية وتركية وكردية متناحرة؛ فإنه لن ينجح في المستقبل ونحن نرى تفاقم الشعور القومي عند كل هذه الشعوب، والانقسام داخل القومية الواحدة، كما هو الحال بين السنّة والشيعة العرب.

هذا الفشل ليس خاصا بالإسلام، فالمسيحية لم تمحُ الفوارق بين الشعوب الأوروبية التي تقاتلت بضراوة؛ وعيشها المشترك اليوم ليس في ظل الفهم ‘الصحيحللمسيحية، وإنما وفق نظام يعترف بالتعددية ويبني تعايشها على المصالح والأهداف.

وقد فشلت بنفس الكيفية الشيوعيةُ التي ادّعت صهر الشعوب والأمم في عقيدة سوفياتية مشتركة، فلم تعمَّر أكثر من سبعين سنة ثم عادت روسيا لروسيتها ومسيحيتها، ودول آسيا الوسطى إلى أصولها الطورانية والإسلامية.

على أي دعامات سنبني إذن هوية للقرون المقبلة؟ إن القاسم المشترك بين كل القوميين هو فهمهم الساذج للهوية، وأنها انحدار قوم من عنصر نقي ثابت لا وجود له إلا في خيالهم المريض، إضافة إلى عدوانية خطيرة وهم يبنون هذه الهوية على الضدّية.

ما يجهله ويتجاهله كل هؤلاء الأغبياء الخطرين، هو أن الهوية الفعلية لكل الأفراد ولكل الشعوب مصنوعة من الآخر بقدر ما هي مصنوعة من الأنا. هي مثل طبقات الجيولوجيا، أي أن تراكم تواريخ المجموعات البشرية المتعاقبة والمتمازجة التي صنعت شعبا- سيواصل التغيير وصنع طبقات جديدة من الهوية.

ولهذا لا يوجد مغاربي واحد -مهما ادّعى النقاوة- لم تختلط فيه الدماء والثقافات العربية والأمازغية والأفريقية والمتوسطية. إنها نفس القاعدة حتى في نجد والحجاز والخليج التي تتابع عليها حجًّا وغزواً وتجارة واستعبادا ما لا يُحصى ولا يعدّ من الأقوام.

ما يجهله ويتجاهله كل هؤلاء الناس أن الأمازيغ والكرد والتركمان والموارنة والدروز والسودانيين اليوم، جزء لا يتجزّأ من ثقافة واسعة صنعوها على مرّ العصور مع عرب عاربة ومستعربة، ثم أصبحوا بمرّ الزمان مجرّد مكوّن من هيكل عظيم شرَفهم الأول أنهم وضعوا أسسه، وشرفهم الأخير تطويره مع بقية المكونات الشقيقة والصديقة.

يصبح مشروع الفكر الناتج عن قوى الخلق والبناء الرمي في سلة المهملات بمفهوم الأغلبية والأقلية، لاستبداله بالمفهوم الجديد أي المكونات، مما يسهّل الاعتراف بكل طبقات الهوية التي راكمها التاريخ، وإعداد العقول للطبقات المقبلة.

على العقلاء إذن من كل المكونات -في المشرق والمغرب- الجلوس في حوار لتجديد عقد العروة الوثقى، على أسس الاعتراف المتبادل والامتنان المتبادل والتطمين المتبادل، وبناء شروط تعايش سلمي يجعل التمتع بنفس الحقوق وأداء نفس الواجبات غير مرتبط بالانتماء أو عدم الانتماء إلى هذا المكوّن أو ذاك. هكذا يمكن تحديث عقد الشراكة القديمة وتحسين شروطها للجميع وفي مصلحة الكلّ.

بقية التحديات الكبرى التي سيواجهها الفكر الجديد معروفة: كيف نبني دولا ديمقراطية غير فاسدة، ونقيم حكما محليا يعطي لكل المكونات سلطة فعلية في إدارة شؤونها؟ كيف ننتهي من شعوب الرعايا ونسرّع بولادة شعوب من المواطنين؟ كيف نخلق أخيرا اقتصادا مبنيا على العلم والتكنولوجيا والطاقات المتجددة؟ كيف نؤسس اتحاد شعوب حرة على غرار الاتحاد الأوروبي؟ كيف ننقل مركز الثقل في تفكيرنا من الماضي إلى المستقبل؟

للإسراع بإنضاج البدائل -والوقت يداهمنا بكل عنف- علينا تكثيف العصف الذهني الجماعي الذي يموج به اللاوعي الجماعي. لا بدّ من قمم تجمع خيرة السياسيين والمثقفين والإعلاميين والشباب والجامعيين والمربين للحلم والتفكير معا.

هل هذه أضغاث أحلام؟ كلا؛ فقد انطلقت المبادرات التي تتلمس بعض الطرق الممكنة للخروج من النفق، عبر مجموعات صغيرة تفكر في نفس الإشكاليات حاليا بصفة مستقلة، ولا بدّ لها من الالتقاء وتجميع قواها.

من التي أعرف؛ “مجموعة الدفاع عن الثورات الديمقراطية” التي أنشّطها مع توكل كرمان من اليمن وأيمن نور من مصر وأحمد طعمة من سوريا. ثمة مبادرة “مؤسسة الشرقلوضاح خنفر وتركيزها على إعداد الشباب لصدمة المستقبل. ثمة مبادرة عزمي بشارة المتمركزة حول جريدة وتلفزيون “العربي الجديد“.

من المؤكد أنه يوجد في أعماق العقل الجماعي أكثر بكثير مما يوجد على السطح من هذه المبادرات. أغلبها سيبرز بالأساس من هذا الشباب الذي أسميه “الجيل الإلكتروني” (e-generation)، والكثير منها قد يُفاجئنا أو حتى يصدمنا؛ لكن تلك هي سنّة التجدّد.

نعم، ما يُطمئن نسبيا أنه في الوقت الذي تصمّ فيه الآذانَ انفجاراتُ وصخب قوى الدمار؛ تعمل قوى الخلق في صمت حتى نكون من صناع التاريخ لا من ضحاياه.

الخلاصة: التفاؤل ممنوع لهول ما تفعله قوى الخراب، والتشاؤم ممنوع لعناد قوى الخلق وعملها الصامت الدؤوب. والموقف المنطقي الوحيد هو ما أسماه إميل حبيبي التشاؤل“.

أنصح كل المتشائلين والمتشائلات بالعمل على تقوية تشاؤلهم بالتمعن في مقولة المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي: “التحديات هي التي تصنع الحضارات”. من هذا المنظور ومنه فقط؛ يمكننا أن نحمد الله -الذي لا يُحمد على مكروه سواهعلى ما “ننعم” به من مصائب، وعلى حجم التحديات التي تواجهنا.

عن موقع الجزيرة نت

*رئيس تونس السابق

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.