في البَرد وداء قصر النظَر !

0

زكية حادوش

عُدْتُ مجدداً إلى المغرب “المنسي” أو “العميق” أو “غير النافع”. فلْتُسَمٌوه ما شئتم، المهم هو أننا نعرف عمَّا نتكلم وماذا نقصد بهذا التعبير، فالمقصود هو كل مكان يبعد عن عاصمة المملكة وحواشيها.

المهم، عدتُ وصار كل هَمي البحث عن الدفء. كما سمعتم، لم أذهب إلى جرادة بحثاً عما تبقى من فحم حجري نَضَبَ من كثرة الاستغلال. وحتى إنْ وُجِدَ فلا يمكن استغلاله، لأنه يعتبر من الطاقات الأحفورية التي لن يُسمحَ بتصديرها قريباً بدعوى الحفاظ على مناخ الكوكب ورَأَبِ ثقب الأوزون، والحقيقة أن الميزان التجاري ليس لفائدتنا كدول جنوب تختزن ما تبقى من الموارد الطبيعية التي لا تقدر بثمن، لكنها لا تساوي شيئا أمام “سلع” دول الشمال التي لا تعدو كونها “خدمات”… تُباع بملايير الدولارات، ولا تساوي حفنة تراب في الأصل.

لن ندخل في تحليل نظام التجارة الدولية وميزانها المختل لغير صالحنا، لأن ذلك يتطلب السياق اللائق به… لكن باختصار لم يشرحْ أحدٌ لسكان جرادة لماذا هم ضحايا هذا النظام، بل اكتفى المسؤولون – الذين لا يتحملون المسؤولية؟ – بتعليق يافطات إشهارية في مداخل المدينة ومخارجها. ووعدت المحكومة -الله يبشرها بالخير- المحتجين بزيارتهم في القريب العاجل.

لم أذهب إلى تلسينت للتنقيب عن النفط، فحتى البترول الذي تخاض به ولأجله الحروب لن يجعلنا أغنى الآن، ولا أدل على ذلك حالُ جيراننا الذين عاشوا العصر الذهبي للبترول ومع ذلك لا يفوقوننا بأي معيار من معايير التنمية.

ذهبت هناك، ربما لأنه قدري على هذه الأرض، وربما لأتذكر الفرق بين الحاجيات الحقيقية للإنسان والحاجيات المصطنعة التي تخلقها الثقافة الاستهلاكية السائدة لاستعباد البشر وبيعهم أي شيء وكل شيء…

قلتُ قد يكون قدري أن أُشَرَّد في وطني وأمشي فيه كما يمشي الغرباء، وأتكلم فيه كما يتكلم غريبو الأطوار، أما العمل فلا داعي لتقليب مواجعه الآن… ومع ذلك، أينما حللتُ في وطني أحس بالانتماء، خصوصاً في تلك المناطق المنسية، وبالأخص حين يصبح الاحتماء من البرد القارس والثلج مطلباً حيوياً ويصير توفير لقمة العيش أقصى ما يتمناه المرء. ليس هناك مطلب أكثر شرعية من هذين المطلبين ومن أجلهما يحيى ويموت الإنسان.

هي صيحة في واد (رحم الله أبا صيحة)، ومع ذلك سأقولها: بسبب آثار التغيرات المناخية في المغرب (الهش مناخيا)، ستعرف المناطق الشرقية الشمالية والجنوبية موجات برد وصقيع وتساقطات قياسية خلال الأعوام القادمة، وكذا موجات حر شديد. في حين أن أغلبيتها لا تتوفر على موارد غابوية (للتدفئة شتاءً وتلطيف الحرارة صيفاً) ولا على إمكانيات اقتصادية تسمح بتغطية حاجيات السكان من حيث الطاقات الأخرى في الحالات المناخية القصوى، ولا على برامج ملائمة للوقاية والتدخل الاستعجالي في حالة الكوارث الطبيعية (لا قدر الله).

بالتالي، فإن تلك المناطق تظل مفتوحة على اضطرابات اجتماعية ناتجة أصلاً عن اختلالات مجالية بشرية ستتفاقم بفعل التحولات الطبيعية. لكن أين هم استراتيجيو “العهد الجديد”؟

ربما مشغولون بالتنمية، تنمية أرصدتهم البنكية والعقارية، وبسياسةِ التشغيل أيضاً؛ أعني تشغيل “وْلِداتْ الفُشوش” وباقي “الأحبة” و”ذوي القربى”… لكن ليس أي تشغيل، بل التشغيل على طريقةِ “التمَخْزَنِيتْ” السيئةِ الذكر، ومن خزائن المملكة طبعاً.

وحتى لا أظلم أحداً، قد يكونون مشغولين أيضاً، بعلاج داءِ قِصَرِ النظر !  والله أعلم.  

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.