من بوتيكات الريكلام… إلى مؤسسات الإعلام

0

محمد العوني*

رصد الأخلاقيات يفيد أن أكثر وأكبر الخروقات والانتهاكات التي تتعرض لها ترتكب من طرف “المؤسسات الإعلامية” قبل الصحافيين… وقبلهما ترتكب من طرف أجهزة ومؤسسات الدولة والمجتمع وأفرادهما، ويمكن التأكد من ذلك عبر تقارير ومتابعات “مرصد حريات” كبرنامج تطبيقي إلكتروني خاص برصد انتهاكات حرية الإعلام والتواصل الرقمي وضمنها المس بالأخلاقيات (اطلع على الرابط  http://www.marsadhouriyat.org/ ).

فممارسة أخلاقيات الإعلام ليست محصورة على الصحافيين ومؤسسات الإعلام كما هو شائع، وعندما نتفحص أسس ومقومات الأخلاقيات فهي ليست بيد الصحافيين والمؤسسات الصحافية وحدهما: الحرية، الاستقلالية، المهنية، التكوين…

من المؤكد أن الصحافي حلقة أولى ضرورية في ممارسة الأخلاقيات، إلا أن المؤسسة حلقة أساسية فيها، كما أن محيط العمل الإعلامي حلقة لا محيد عنها في الوصول إلى تجسيد الأخلاقيات في أحسن ما يمكن..

من أخلاقيات المهنة إلى أخلاقيات الإعلام

لذلك أفضل مع منظمة حريات الإعلام والتعبير –حاتم الحديث عن “أخلاقيات الإعلام” عوض أخلاقيات المهنة وحدها. فواضح أن استعمال المصطلح الثاني يعمل على تحميل الصحافيين الوزر الحصري للأخلاقيات، وليس ذلك دائما بدون وعي، وإنما غالبا بهدف التغطية على خرق الحرية والاستقلالية والمهنية، لاسيما من خلال تضخيم وتشويه وتمييع “ربط حرية الصحافي بالمسؤولية”       وهي قاعدة أساسية للعمل المهني، عندما تتوفر أولا الحرية والاستقلالية – دون لف أو دوران – آنذاك تكون مسؤولية الصحافي كبيرة فعلا، في مستوى قيمة تلك الحرية والاستقلالية..

غير أن ما عشناه في المغرب خلال العقدين الأخيرين هو تحويل مسؤولي الدولة هذا الربط إلى شعار مضخم ومعظم، يرفع لتبرير أنواع من الاعتداء على حرية الإعلام والإعلاميين، لدرجة أن بعض الوزراء أخذوا يفتون في أخلاقيات المهنة وأوجه ممارستها بصور مثيرة للتقزز والضحك في نفس الوقت..

تتفاوت وسائل الإعلام بالمغرب في طبيعتها وحجمها وهيكلتها وخطوطها التحريرية وعطائها الإعلامي، لكنها تتقارب في الممارسة السيئة لأخلاقيات الإعلام، وليست الاستثناءات هنا – مع الأسف – إلا تأكيدا للقاعدة العامة السائدة.

ويسجل على المؤسسات الإعلامية المفروض أنها عمومية والكبيرة حجما أكثر وأفظع الانتهاكات والخروقات للأخلاقيات، ومن أبرزها الخلط بين الإعلام والدعاية، والتعتيم، والتضليل والتشهير، والخلط بين الإخبار والإشهار..

وإذا انتقلنا إلى “المؤسسات الخاصة” فقد ذكرنا مؤخرا الصديق والزميل جمال محافظ ببعض من تاريخ أخلاقيات المهنة في المغرب عبر مقال صادر في  6-8-2018 ومما جاء فيه: “وقد تعثر مسار الهيئة (يقصد الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير)، التجربة الفريدة، في مجال التقنين والتنظيم الذاتي، بسبب عدة عوامل، كان أبرزها كما جاء في إحدى مداولات الهيئة نفسها وتقارير النقابة  تقاعس بعض مكونات هذا التنظيم، عن الالتزام بالحضور والمتابعة خاصة الأعضاء الذين انتدبتهم فيدرالية الناشرين، حيث اكتفى جلهم بالحضور فقط لالتقاط الصورة الجماعية التي تؤرخ لحفل تنصيب الهيئة بالإضافة لانفراد هيئتهم باعتماد ميثاق للأخلاقيات يتضمن بنودا قيودا على حرية الصحافة والتعبير…”.

ومن المعنيين بما قاله د محافظ أبرز مدراء الجرائد آنذاك وجلهم مازال اليوم في موقعه.

فإن كان هذا حال البارزين فماذا ننتظر من مدراء سقطوا من فوق ريش أجنحة للسلطة على مواقع المسؤولية الإعلامية أو تزحلقوا نحوها من تحت المال العائم؟؟ وماذا ننتظر من مسؤولين تشكلوا من”سماوي” الأنترنيت وما يسمونها ظلما “مواقع إخبارية”؟؟ ولعل فيما سبق ما يكفي، بالنسبة لهذا الحيز؛ علما أن الأمر يحتاج فعلا للمزيد من النماذج والتفاصيل..   

 والحصيلة تفيد أن العديد من المؤسسات الإعلامية تدفع الصحافيين دفعا إلى خرق أخلاقيات الإعلام يوميا.

 هل ننتقل من الريكلام إلى الإعلام

 والوجه الآخر من مسؤولية المؤسسات هي تشغيلها عاملين بدون أدنى شروط مهنية وأخلاقية ومادية واجتماعية ومعنوية مقابل أن يحوزوا صفة “صحافي” فيتم التواطؤ مع أزمة البطالة لتشويه وإفراغ مهن الإعلام التي لا نحتاج لتأكيد مركزيتها اليوم في العالم، ومركزيتها وطابعها الجوهري أكبر في بلد مثل المغرب. وبذلك يضاف عنصر آخر لتعقيد متوالية الهشاشة في المهنة والقطاع والمجال وهي تتمفصل مع عمليات الفساد والإفساد ومع التيه السياسي و التعثر الاقتصادي..

كل هذا لا يلغي مسؤولية العديد من الصحافيين في قبول المساهمة في الذبح اليومي للأخلاقيات، ولو بحجة هشاشة المؤسسات وضرورة العيش والإفلات من تهديد التعطيل والبطالة. وهناك عشرات من الصحافيات والصحافيين الذين اضطروا بسبب تحمل مسؤولياتهم في هذا الصدد للهجرة، أو حتى لتغيير المهنة ككل.

وليستقيم الفهم ينبغي طرح سؤال أولي وبسيط وهو: كم عدد المؤسسات الإعلامية الحقيقية التي تتوفر على الشروط الضرورية للوجود بتلك الصفة؟؟ وهل يمكن الحديث عن مؤسسة في غياب اتفاقية جماعية وتشغيل العاملين بدون تعاقد، وفي غياب مجلس التحرير مقابل مجلس الإدارة، وتناسي اجتماعات هيئة التحرير إن وجدت، وفي غياب رئيس تحرير حقيقي..؟؟

بدون تردد يمكن القول إن أول خرق تقوم به للمهنة وللأخلاقيات أغلبية المقاولات والشركات والبوتيكات التي تسمى إعلامية، هو أن تحمل اسم “مؤسسة إعلامية”.

يستعمل “الريكلام” في اللغة الدارجة للدلالة على نوع من الإعلان والإشهار الذي تعودنا عليه في أسواق الهوامش كتسويق في محيط من الضجيج والغبار والتشويش والازدحام، ويكون في أحسن الأحوال من خلال بوتيكات أو دكاكين صغيرة، وفي الغالب عبر العربات المجرورة ضمن أسواق الخردة والفاقة والفوضى المنظمة.

وللأسف هناك وسائل إعلام في المغرب لا تختلف كثيرا عن هاته “البوتيكات ” سواء في العشوائية  أو البؤس أو الهشاشة أو”الفهلوة”، مع محاولة التغطية على ذلك الوضع باقتناء بعض التجهيزات البراقة أو الأدوات الجديدة..

قضية القضايا هي الحرية، و للموضوع بقية..

 26-8-2018

*باحث في الإعلام والاتصال

 

 

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.