خطاب ذكرى المسيرة الخضراء وتكريس الدور المحوري للملك في مجال السياسة الخارجية

0

المصطفى بوكرين*

لقد حاولت السياسة الخارجية المغربية انطلاقا من الوثائق الدستورية التي عرفها المغرب منذ حصوله على الاستقلال، الاعتماد على تثبيت المرتكزات الدستورية والدينية للمؤسسة الملكية لتكريس سموها في تدبير المجال الخارجي للمملكة باعتباره “مجالا خاصا أو محفوظا”، بهدف حماية المصالح العليا للوطن والدفاع عن الثوابت الأساسية للمملكة، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية، التي شكلت موضوعا أساسيا للخطب والرسائل الملكية في كل المناسبات الوطنية والدينية.

إن كل الدساتير، منحت المؤسسة الملكية سلطة احتكار القرار السيادي والاستراتيجي للسياسة الخارجية المغربية من أجل الحفاظ على المصالح العليا للوطن، وهو المعطى الذي كرسته وحافظت عليه مقتضيات دستور 29 يوليوز 2011 رغم الانفتاح على باقي المؤسسات الدستورية.

فالمشرع الدستوري المغربي رغم التعديلات المتقدمة التي جاء بها على هذا المستوى سنة 2011، من خلال عقلنة اختصاص الممارسة السياسية للمؤسسات الدستورية، وتقاسم مجال السياسة الخارجية بين المؤسسة الملكية وباقي الفاعلين الرسميين، كل يساهم من جانبه بشكل أو بآخر في رسم معالم هذه السياسة بوصفها سياسة عمومية، فإنه بالمقابل عمل على توطيد سمو السلطة السياسية للمؤسسة الملكية واستمرار شرعيتها التاريخية وإشرافها المباشر على تدبير مجال السياسة الخارجية.

فقد عملت الوثيقة الدستورية الجديدة على تقوية صلاحياتها في مختلف المجالات التي تهم القضايا الاستراتيجية المصيرية للدولة، وتكريس دورها المحوري في مجال السياسة الخارجية سواء في الحياة الدستورية العادية أو الاستثنائية، من خلال مجموعة من النصوص باعتبار الملك رئيسا للدولة، الصفة التي تمنحه مجموعة من الصلاحيات الدستورية السيادية للمملكة كممثل أسمى لها، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها واستقلال البلاد في حدودها الحقة، وصيانة وحدتها من كل نزعة انفصالية والساهر على احترام التعهدات الدولية للمملكة.

كما احتفظت نفس الوثيقة الدستورية بالمكانة المتميزة للمؤسسة الملكية في قيادة البلاد باعتبار الملك القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، واستئثاره بسلطة التعيين في الوظائف العسكرية، وبالتالي التحكم في بنيتها التنظيمية. كما منحته سلطة رئاسة المجلس الأعلى للأمن بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة، وكلها مجالات تكتسي بعدا سياديا للمملكة في سياسته الخارجية.

فالملك من خلال هذه المكانة السامية ودوره المحوري في إدارة الشؤون الخارجية للمملكة، يعد بمثابة الموجه الأساسي لنهج الحكومة والبرلمان في هذا المجال، فالوثيقة الدستورية تضمن لرئيس الدولة التحكم في مجالات السياسة الخارجية وفق اختصاصاته، وتوجيهها بما يخدم المصالح العليا للدولة وتقديم ما يتعلق من بيانات وخطب للشعب فيما يخص هذا المجال، إضافة إلى سلطته في تعيين المبعوثين الدبلوماسيين واعتماد أوراق الأجانب منهم، والاطلاع على التقارير الواردة من المبعوثين في الخارج وإبداء الرأي فيها. كما يمثل الدولة في المفاوضات الدولية وله حق إشهار الحرب وإعلان حالتي الاستثناء والحصار، والتوقيع والمصادقة على بعض المعاهدات، حتى تصبح نافذة ومنتجة لأثارها القانونية على الصعيد الدولي.

بل إن ممارسة المؤسسة الملكية لسلطاتها الخارجية تفرض امتثال باقي المؤسسات لكل ما تصدره هذه السلطة من قرارات وتوجيهات وخطب تهم القضايا المصيرية وذات الأولوية في السياسة الخارجية للبلاد، وتجعل سلطة الملك في هذا المجال محط إجماع وطني بعيدة عن كل تجاذب سياسي، وتجعل كل المبادرات في المجال الاستراتيجي والعسكري والأمني من مهامه الخاصة  لبلورة أهداف وتوجهات السياسة الخارجية المغربية في تفاعلها مع المحيطين الإقليمي والدولي.

في هذا الإطار يندرج الخطاب الملكي الذي وجهه صاحب الجلالة إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء، والذي دعا من خلاله الفاعلين إلى اعتماد مقاربة دبلوماسية جديدة في التعاطي مع القضايا الاستراتيجية للمملكة، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية  والتي يجب أن تراهن في مقوماتها على العمل الجاد وروح المسؤولية والوضوح، ومد جسور التواصل وفتح باب الحوار مع دول الجوار لا سيما دولة الجزائر من أجل تجاوز الاكراهات التي تكرس التفرقة داخل الفضاء المغاربي، الذي يشكل إحدى اللبنات الأساسية الاستراتيجية في توجهات السياسة الخارجية المغربية حسب تصدير دستور2011.

كما جعل الخطاب الملكي من تطبيع العلاقات مع الجارة الجزائر إحدى الرهانات الأساسية في بناء هذا الفضاء نظرا للروابط التاريخية واللغوية والدينية والنضالية الموحدة التي تجمع البلدين، ونظرا للمصالح المشتركة التي أصبحت ضرورة لا مناص منها في الوقت الراهن لمواجهة كل المتغيرات الإقليمية والدولية التي تهدد أمن واستقرار المنطقة، لاسيما تدفقات الهجرة غير الشرعية لدول جنوب الصحراء وامتداد الظاهرة الإرهابية بدول شمال إفريقيا.

من جهة أخرى حث الخطاب الملكي على اعتماد مقاربة جديدة في إرساء هذا التوجه  لتحقيق التكامل والاندماج عبر الدعوة إلى إحداث آلية سياسية مشتركة بين البلدين للحوار والتشاور، وهي دعوة جريئة من طرف جلالة الملك ومباشرة لحكام قصر المرادية بالجزائر، وإن دل هذا على شيء فإنما  يدل على حسن نية المغرب لتطبيع العلاقات بين البلدين، والدفع بها إلى الأمام وتجاوز حالة الجمود التي تضيع فرص كثيرة على المنطقة من الناحية السياسية والاستراتيجية والاقتصادية.

وحدد الخطاب الملكي دور هذه “الآلية السياسية” في إطار العمل المشترك بين البلدين بكل موضوعية وبحسن نية، للانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة في إطار التعاون المتبادل في كل المجالات، بما فيها طرح الحلول الممكنة والواقعية لإيجاد حل لقضية الصحراء مع الاحترام التام لسيادة الوطن.  

والملاحظ أن الخطاب الملكي بهذه الرؤية الاستباقية لتصور العلاقات الثنائية مستقبلا بين البلدين جاءت متلائمة مع خلاصات قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2440 الصادر بتاريخ 31 أكتوبر 2018 بشأن ملف الصحراء، والذي قضى بتمديد بعثة المينورسو ستة أشهر إضافية، في أفق بدء المفاوضات بين أطراف النزاع الشهر المقبل بجنيف السويسرية، والذي اعترف لأول مرة بالجزائر كطرف رئيسي في النزاع، مما يتوجب عليها المشاركة في المفاوضات بهذه الصفة وليس بصفة مراقب، الأمر الذي يجعلها  في هذه اللحظة التاريخية للاعتراف الأممي بموضوعية وواقعية المقترح المغربي، أمام أمر الواقع في امتحان عسير تجاه الشرعية الدولية، في اتجاه التسريع بعملية السلام لإيجاد تسوية سياسية للقضية على أساس المقترح المغربي للتفاوض بشأن الحكم الذاتي بالمناطق الجنوبية الذي يحظى بتأييد دولي.

كما شكل الخطاب الملكي في هذه الظرفية آلية تواصل وتوجيه للإقرار بالتعاون المغربي مع هيئة الأمم المتحدة ودعم جهود الأمين العام الأممي ومبعوثه الشخصي للصحراء، والتمسك بالشرعية الأممية في مسار تسوية قضية الصحراء، من خلال التجاوب البناء للمغرب مع كل المقترحات والقرارات الأممية في الموضوع، الكفيلة بإيجاد حل سياسي دائم على أساس الواقعية وروح التوافق بين أطراف النزاع واحترام سيادة المغرب،  مع الاعتراف بالانخراط المتواصل والدائم للمملكة في مسلسل تنمية المناطق الجنوبية، عبر التنزيل الفعلي للجهوية المتقدمة وإرساء النموذج التنموي الجديد، في استجابة لتطلعات ساكنة المنطقة.

*باحث بسلك الدكتوراه في القانون الدستوري وعلم السياسة-جامعة محمد الخامس الرباط

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.