السلفية من الالتباس إلى الابتذال

0

نورالدين الحاتمي

تعد السلفية من المفاهيم الأكثر التباسا وابتذالا في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، أما أنه مفهوم ملتبس، فهذا ما لاحظه غير واحد من المفكرين الإسلاميين أنفسهم، إنها يصعب، اليوم ، وضع تعريف واضح لها ومتفق عليه بين الدارسين.

حيث أن هناك أنماطا من السلفية عرفها العالم العربي والإسلامي ، تصل إلى حد التعارض والتناقض، من مثل السلفية التي سادت في المغرب ، كسلفية العلامة علال الفاسي، والسلفية التي ارتبطت بمحمد عبده والكواكبي والأفغاني، وحيث أن هناك أيضا أعلاما، من كبار المنتسبين إليها،  تتعارض أفكارهم ومذاهبهم ومدارسهم، إلى درجة أن منهم من يكفر مخالفيه ويلعنهم ويهدر دماءهم.

وربما عاد الالتباس الذي طالها، إلى أن الناس لا يفرقون بين السلفية كموقف، والسلفية كمذهب، ويختلط الأمر عليهم، فلا يستطيعون الفصل بينهما ، ولو منهجيا على الأقل.

وتفترض الورقة أن السلفية باعتبارها موقفا تعني المسلمين جميعهم وتشملهم كلهم، حيث في تقديري على الأقل، أن المسلمين، عامتهم، سلفيون بمعنى ما، وليس من حق أحد أن يزايد عليهم في تسلفهم، أو أن ينزع عنهم وصف التسلف، خصوصا وأن المسلمين اليوم يجعلون الإسلام مزقا ونتفا،  ويأخذون منه، بقدر ما يلائم مصالحهم، وبقدر ما يخدمهم. ولا فرق، في هذا، بين تيار أو آخر.

ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن السلفية ظلت وصفا يعم غالب المسلمين، باعتبارها كانت فهما للإسلام على فهم الصحب الكرام والأئمة الأعلام ، تحت قاعدة الاتباع لا الابتداع، وباعتبار أن المسلمين كانوا يؤصلون لأفعالهم وأعمالهم من ممارسات السلف وتطبيقاته، إلى أن ظهرت نوابت الصحراء، في نجد والحجاز، فحصرت المفهوم وصيرته مذهبا، يبدأ بابن حنبل وأصحابه، ويمر بابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وفقهاء نجد، وينتهي بهذه المسوخ، التي اشتهرت من جزيرة العرب.

وأما أنها مبتذلة، فهذا بين في أن الزخم الذي تحقق لها، والاهتمام الذي كان يولى لها قد تراجع بشكل كبير، بحيث أنها، اليوم، لم تعد تعني للناس شيئا.

وهذا الابتذال راجع، في تقديري، إلى الاستغراق في توظيفها من قبل الناس، والانتساب إليها من غالبهم، بل ونسبة الاجرام والأفعال المنكرة والقذرة إليها، والتأصيل لها بها، كما هو راجع أيضا إلى إمعان رجال الكهنوت، في الدفاع عن التخلف، والإنحاط والظلام، انطلاقا منها وتأسيسا عليها وعلى مقولاتها. وتحالف رموزها (الذين يملؤون الدنيا صخبا وضجيجا فيما يسمونه دفاعا عن الاسلام العتيق) مع الطغاة، والتعاون معهم في إذلال الشعوب، باسم الله وباسم الرسول، بل والكذب على الله ونبيه من أجل تكريس هذا التحالف الأسود والتعاون الحرام.

وعلى الرغم من كون السلفية مفهوما ملتبسا ومبتذلا، لاتزال طائفة من السدنة ومن رجال الكهنوت ترافع عن هذا الوهم الذي تسميه (منهج السلف) أو(المنهج السلفي) وتناضل في سبيله، وتستعمله كسلاح ترفعه في وجه المخالف والخصم، وتغلف موقفها (اللاديني) والدنيوي من المخالف، بدعوى الغيرة على الإسلام والسنة المطهرة، وهي الطائفة التي تتغلب على غيرها وتفرض طروحاتها مستغلة، في ذلك، جهالة الناس وتعلقهم بالدين، ومتوسلة بالغوغائية والشعبوية اللتين تتميز بهما الجماهير.

وبقليل من التأمل، يتبين ويتضح أن هذا المنهج لا وجود له ولا معنى، وما هو، في الواقع، إلا بناء شيده رجال قاصدون به الذود عن مصالحهم ومشاريعهم، وتحصينها من المتنافسين معهم والمزاحمين لهم، وأن هذا الصرح العقدي والفقهي الذي وضعه هؤلاء، ما هو في الحقيقة، إلا افتئات على السلف وافتراء عليهم.

وأن الصحابة لم يكن لهم منهج واحد ولا فقه واحد ولا أسلوب واحد للاستنباط. وأنهم اختلفوا بين من يميل إلى التشديد والأخذ بالعزائم، وبين من يميل إلى التيسير والأخذ بالرخص، وبين هؤلاء وأولئك جمع غفير. وأن الصحابة أنفسهم كانوا يتصرفون كبشر عاديين، منهم الأولياء الذين يرتفع بهم إيمانهم إلى أن يقاربوا الملائكة، ومنهم دون ذلك، ومنهم من كان تنزل عليه آيات الأحكام.

  وأن المرويات التي ترفعها الناس إليهم تصل، في اختلافها وتباينها، إلى حد التناقض، بل الفوضى، والناظر في متون الفقه والأصول والحديث يقف على ذلك وأكثر. وأنه قبل الشافعي، كان أهل الشأن الديني من المفتين يصدرون هذه الفتاوى بناء على ما يرونهم مصالح فقط، وليس وفق القواعد التي سطرها أرسطو العرب الإمام الشافعي.

وأن الأصول التي تم تأصيلها من قبلهم، والقواعد التي تم تقعيدها، لا يمكن فهمها إلا في إطار فرض سلطانهم على الناس والهيمنة عليهم.

وربما انتبه غير واحد من الكتاب والمثقفين إلى هذه القضية، فحاولوا أن يصححوا الرؤية، وأنكروا على أدعياء التسلف ودجاليهم احتكارهم القول باسم الإسلام، والحديث عنه، ونبهوا إلى أن السلفية ليست مذهبا أو مدرسة وإنما هي فترة تاريخية متفردة ومباركة، وأن دعوى أنها مذهب له أصوله وقواعده، المبثوثة في مصنفات الحنابلة، جناية في حق الإسلام، وجناية في حق الحقيقة، وكذب بواح وصراح على التاريخ.

وقد بات واضحا أن عددا من أصول هذه البدعة، التي أسماها المنتفعون منها السلفية، ليست في الواقع إلا مزايدات على الناس، ودعاوى عريضة كذوبة، ليس لها من الواقع رصيد أو سند.

من تلك الدعاوى الكذوبة، أنهم يدعون أثناء مواجهتهم المتكلمين، أنهم (خصومهم من المتكلمين) يقدمون العقل على النقل، بخلافهم، هم أهل المنهج السلفي، فإنهم يقدمون النقل على العقل ويجعلون هذا الأخير تابعا للنص، وليس العكس كما يفعل المتكلمون، إذ يجعلون العقل حاكما على النص ووصيا عليه.

والواقع أن العكس هو الصحيح، إذ بناءاتهم النظرية كلها معقولة وعقلانية ربما أكثر من مخالفيهم، كما لا حظ عبد الله العروي، وأن أئمتهم شيدوا معمارهم الكلامي والعلمي وفق تصميم عقلي، وردوا على خصومهم بالعقل، ونظموا خطابهم بالعقل أيضا، وتعاملوا مع القرآن وأعادوا تأويله بل وأخضعوه، أي القرآن نفسه، لمنطقهم ولمبادئهم التي صاغوها، بل وفعلوا ذلك وفق منهج صارم.

إنهم، في المحصلة، لا يختلفون عن غيرهم، إلا في الإدعاء والكذب، والمزايدات التافهة والمكشوفة.

وإذا كان بعض منهم، اليوم، بدأ يتراجع عن هذا الغرور وهذا الصلف، ويعلن أن القواعد، التي كانوا يعتمدون عليها في إرهاب المثقفين وتخويفهم، ليست لها آية حجية. وأنها مجرد اجتهادات بشرية، يجوز القفز عليها وتجاوزها. فالفضل في هذا لا يعود إليهم وإلى اجتهاد منهم، وإنما الفضل في ذلك، يعود إلى الأعمال الفكرية والنقدية، التي صدرت وتصدر عن باحثين، طالما تعرض لهم هؤلاء بالتجريح والتشكيك، ويعود أيضا إلى الجرأة والشجاعة التي يتسلح بها هؤلاء المفكرون.

 

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.