
فاطمة اتوليد.. المُعلمة التي كانت وأصبحت أديبة وشاعرة صنديدة بلُغة موليير
تعيش متنقلة في سفر مفتوح بين معارض الكتب واللقاءات الجمعوية، حتى خارج الديار، متأبطة زادا من كُتب وحقيبتها بما حوت من ثياب ولوازم سفر لا ينتهي وقد بدأ للتو، عندما غادرت مكاتب الوظيفة بما لها وما عليها من إلزام وقيود، ولتنطلق في عوالم التأليف الأدبي ولاسيما الشعري، الذي أرادت لها أن يتردد صداه بين العالمين وليس فقط بين بني جلدتها.

ولذلك اختارت كاتبتُنا لغة موليير دون أن تُغضب لغة الضاد، التي تصر على أنها اللغة الأم التي تهواها وتعشقها لحد الهيام، وكم تبدو أسعد الناس حينما تسعفها الأبَجَديّة وتستطيع كتابة رسائل خاصة ومداخلات بلغة عربية بسيطة وفصيحة لكنها رائعة..
حديثي عن فاطمة اتوليد الأديبة الشاعرة والأستاذة المتقاعدة، التي تمتح من قاموس أهل موليير، فتُقدم لهم ولأهلها المغاربة والعرب ممن يقرأون الفرنسية، الشعرَ والنثرَ في أبهى الحلل، وكأنها تقول لهم: ها أنا ذا أستطيع إيصال ما يخفق به قلبي إليكم مِن وهج وجَمال وحُب وسلام، تماما كما جادت بذلك قريحتُها في ديوان “سفر إلى ما وراء قلبي” (voyage au delà de mon coeur)؛ أو كما أبحرت ذات ليالِ سفرٍ، زادُه الشغفُ والشوقُ والحنينُ والاستشرافُ، في غياهب ذاكرتها لتُفتش فيها تفتيشا يضاهي محاكم التفتيش في قسوتها ولكنه تفتيش، مع ذلك، عذب وبهي كما السفر الجميل الذي لا ينتهي، وكيف ينتهي وقد نُقش توثيقه بأحرف مولييرية بديعة أخّاذة تلمع كالذهب، حينما جمعَتْها في ديوان “سفر إلى ما وراء ذاكرتي” (Voyage au delà de ma memoire)!

وليس الشعر فقط ما سافرت في بحوره وغياهبه الملأى بآيات الجمال والعشق والاستشراف، بل إن كاتبتَنا ومبدعتَنا أبت إلا أن تتحلى بما يتحلى به الصناديد والفطاحلة، فخاضت تجربة الكتابة النثرية بنفس لغة الفرنسيين، وألّفت كتاب “ارتياح” (Soulagement)، الذي جاء امتداداً لديوان “سفر إلى ما وراء قلبي”، وقد كان ليس إلا “ارتياح”/استراحة محاربة، قبل الانطلاق من جديد وفي انتظار انطلاق وانطلاق، ولسان حالها يردد بتحدٍّ أمام قبيلة موليير: مَن منكم يستطيع صدّي أنا القادمة من جبال الأطلس الشامخة.. الأمازيغية المغربية العربية التي لا تهاب خوض غمار لا بحور الشعر ولا محيطات النثر.. أنا بنت هذه الأرض التي لم تتوقف قط عن إنجاب الرائدات المتحدّيات للصعاب اللائي لا يعرفن المستحيل.. أنا خرجتُ من رحم الأرض التي دَرَجت فيها فاطمة الفهرية وأنشأت بها أول جامعة في هذا الكون.. أنا بنت هذه الأرض التي أنجبت زهرة أغمات ذراع ابن تاشفين في الحُكم.. أنا من طينة ثُريا الشاوي التي تجرّأت على أن تقود الطائرة كأول عربية ومسلمة تفعل ذلك وهي في ريعان شبابها، ولمّا تجّرأت قتَلَتْها يدُ مستعمر غادرة وهي لم تزل يافعة، وكأنهم قتلوا الأمل فينا نحن المغربيات ولكن شبّه لهم وهأنذا ومثيلاتي كثيرات نقارعكم في عُقر لُغتكم.. أنا ولدت من نفس الرحم التي ولدت منه مليكة الفاسي وخناتة بنونة وفاطمة المرنيسي والرائدات الباقيات الخالدات..

تقول كاتبتنا وشاعرتنا فاطمة اتوليد كاشفة بِهمس لنا سرَّ بوْحها شِعرا ونثرا، ومُميطة اللثام عن خبايا عوالم إبداعها: “نقشتُ كتاباتي في سِجلين، الشعر والنثر. لكن في الكُنه والجوهر تظهر بِشرة أدبية واحدة، وجانب مُوحد، غالبًا ما يحدث عندما تأتي الكتابة من نفس اليد، من فكرة واحدة للكتابة. وذلك على أساس الاعتراف بالكلمات المأخوذة من القلب ومن الحياة”.

هي فاطمة اتوليد الأستاذة ازدانت أحضان تضاريس ايموزار كندر ذات سنوات مضت، فحملت على عاتقها مسؤولية تربية الأجيال معلّمة ومربية بعدما كانت تابعت دراستها بالعاصمة العلمية فاس، قبل أن تحط الرحال بالرباط حيث كان العمل بالتدريس إلى أن تقاعدت، ولكن فقط عن العمل كمُدرسة، لأنها منذئذ حلقت مباشرة في رحلة التأليف الأدبي والشعري والسفر بعيدا وبلا عودة، في عوالم البحث عن الذات الحالمة بداخلها، التواقة إلى بسط ونشر الحب والأمل والسلم بين الناس؛ ولعل ذلك ما جعلها تهمس إلى كاتب هذه السطور في آخر تواصل بينه وبينها، وقد حجزت تذكرتها للسفر إلى سويسرا لتعرض كتابها “ارتياح” بعدما عرضته في فرانكفورت بألمانيا وقبلها بمعرض الكتاب الدولي بالرباط، بأن يبلغ “شبابنا المقبل على الحياة، بأن يتشبث بشعاع الضوء الذي ينير مستقبله ويفتح الآفاق أمامه، والذي هو ليس إلا القراءة والمطالعة. وأن يصاحب الكتاب، الرفيق الذي لا يمل، والصديق الذي لا يخون”.
ولتواصل رحلتها الباذخة عطاءً والزاخرة بهاءً، فإنها وهي ما تزال تخوض غمار الكتابة والتأليف والأنشطة المدنية من خلال العمل الجمعوي، فقد ران في خاطرها أن تدشن العمل على “بيوغرافيتي” قد تحمل من الأسامي والعناوين “ابنة الأطلس”، تدون فيها النجاحات وهي كثيرة والإخفاقات وإن قلّت وأفراحها وأحزانها ولقاءاتها وتجاربها مع الناس ومع الحياة، وكذا محاولة الجواب عن السؤال المؤرق لها اليوم: أي الـ”الفاطمتين” أقرب إلى قلبها، أهي المعلمة والمُربية أم الأديبة والشاعرة؟ !
نورالدين اليزيد