نجحت “الجزيرة”.. فلماذا لم ينجح غيرها؟!*
سليم عزوز**
في ضدها تُعرف الأشياء؛ وتفوق «الجزيرة» يمكن أن يقف عليه المرء بمجرد متابعة تغطيتها للانتخابات الأمريكية مقارنة بالقنوات الأخرى!
تتألق مع الأحداث الكبرى، والميزة المهمة للأحداث، أنها توقف بث البرنامج الصباحي إلى حين الانتهاء منها، فلدى القوم تصور أن البرامج الصباحية لا بد أن تبالغ في الخفة، وتستغرق في الابتسامة المصنوعة، وهو أسلوب لجأت اليه القنوات الأخرى، لأنها فشلت في منافسة «الجزيرة» في الجدية، فذهبت إليها «الجزيرة» ولم تكن موفقة في هذا الذهاب، ولو كان البرنامج الجديد، الذي يقدم وجبة «كاملة الدسم» في منتصف الليل، تجمع بين الرصانة والرشاقة، مكان البرنامج الصباحي لكان خيرا وأبقى!
وليس معنى هذا أنني منحاز للأداء الجاد والصارم طول الوقت، فساعة وساعة فإن القلوب تمل، بدليل أنني أرى أن برنامج «فوق السلطة» يمثل إضافة مهمة ليس فقط لـ«الجزيرة» ولكن لهذا النوع من البرامج، والذي يمثل درساً عملياً على أن الفكاهة ليس معناها الابتذال، وأنه لكي تكون ساخراً فليس معناه أن تكون أراجوزاً، أو «إسماعيل ياسين في سرايا المجانين»!
ولأن الحدث في حجم الانتخابات الرئاسية، فقد نجحت القناة في أن تكون قبلة المشاهدين، ومن خلال فريق العمل الذي سافر من الدوحة، الى جانب أعضاء الفريق في مكتبها في واشنطن، وهم – والشهادة لله – وبالواحد، فرداً فرداً – يشعرونك أنهم عينوا وفق قواعد الاختيار مغمض العينين، وهو رمز العدالة، فأيام الشباب كنا نقرأ عن «العدالة مغمضة العينين» وبدا لي أنه شعار خاطئ، فالأصل أن تكون العدالة مبصرة، وسألت المفكر المعروف والقاضي محمد سعيد العشماوي، عن معنى هذا الشعار، فقال معناه أن القاضي عندما يحكم لا ترى عيناه المتقاضين ليكون حكمه على الوقائع لا على الأشخاص، ثم أردف ضاحكا: «لكن العدالة الآن فتحت عينها ومدت يدها»!
رد الاعتبار لمهنة التحليل
تفوق «الجزيرة» ليس فقط في تقديم المعلومات بتجرد، ولا في مراسليها في كل الولايات الحية، ولكن الى جانب هذا، في هذا الأستوديو التحليلي، الذي يقرأ هذه المعلومات، ويحللها، ومن محللين لدى بعضهم انحيازاهم، لكن عندما يحضر من يمثلون الرأي الآخر، فإن هذه التنوع هو ما يثري النقاش، ويقدم للمشاهد رؤية مكتملة، لا سيما وأن التحليل هادئ يغيب عنه الصخب والمغالطات، وقصد سوء وسوء القصد، وهو استوديو رد الاعتبار لمهنة التحليل السياسي، التي لحق بها ضرر فادح في السنوات الأخيرة، بعد أن منح الوصف «المحلل السياسي» لنشطاء، فأصبح مهنة من لا مهنة لهم، وصار «محمود إبراهيم» محللا سياسياً، إي وربي، فمحللو آخر الزمان لا يقدمون رؤية متماسكة، أو وجهة نظر واضحة، أو توظيفاً للمعلومات وإنما يقومون بتسريب المعلومات المضللة والكاذبة!
لقد قدمت المحطة، ولا تزال تقدم، بينما أكتب هذه السطور، خدمة على مدار الساعة للمشاهد، وقد أرقت لهذا التميز من رأوا بالدليل أن الإعلام المصري خارج السياق، لكني أعتقد أن من الظلم البين مقارنة «الجزيرة» بقناة «مصر» الإخبارية مثلاً، أو بغيرها من قنوات يديرها ضباط صغار، وإعلاميون جاءوا لإحياء ليالي الأنس على الشاشة بالصخب ونشر الجهل وترويج الخرافات وخناقات الشوارع!
لقد انصرفت قناة مصر الإخبارية عن متابعة الانتخابات، فتعاملت معها على أنها خبر عادي، وتستعين أحياناً بموفد واحد لها من واشنطن، لا يقول جديداً، ولا يقدم مبرراً منطقياً لإرساله إلى هناك، إلا لاستكمال الشكل، فلا بد من وجود مراسل، ولا بد من الاتصال بهذا المراسل «معنا عبر الأقمار…» مما يؤكد الحضور وعدم الغياب التام!
وبدت قناة مصر الإخبارية، وقد تخلت عن هذه المهمة لقناة «اكسترا نيوز» التي تديرها الأجهزة الأمنية، وإذ قرأت إشادة بها وبأدائها في تغطية الانتخابات الأمريكية، فذهبت لأحد فإذا تواضع الأداء، وإذا بنا أمام الإعلام الموجه، فالقوم تصرفوا، كما لو كانت انتخابات البرلمان المصري، ودورهم توجيه الناخب في الاتجاه، الذي تريده السلطة المصرية، لأكتشف بعد المتابعة أن من كتب يشيد بالأداء الرائع لـ «اكسترا نيوز» يبدو أنه من العاملين فيها، أو ربما كان الانحياز القبلي لا أكثر ولا أقل!
عاصمة الإعلام العربي
وإذا كانت الأحداث الكبرى تكشف أن «الجزيرة» لا تزال قادرة على التفوق، فإن هذه الأحداث تكشف هوان غيرها، وهو ما اعترف به من يمثل «الاتجاه المعاكس» فقد كتب أن تغطية الجزيرة العربية والانكليزية للانتخابات الأمريكية، تؤكد أن قطر هي عاصمة الإعلام العربي، فـ«الجزيرة» مهنية إلا عندما يتعلق الأمر بنا. أو هكذا قال!
وهناك دعاية رائجة في مصر، نجح الإعلام في اقناع كثيرين بها، وهي أن «الجزيرة» منحازة ضد السلطة الحاكمة في القاهرة، دون تقديم أي دليل على ذلك، وصار الأمر شبيهاً بدعايات أخرى رسخت في وجدان البعض مثل إن الإخوان كانوا سيغيرون هوية مصر، وكنت دائماً أعتقد أن مثل هذه المقولات في حاجة إلى نقاش فلا تترك ليقين العوام، فكنت أسأل من يتواصلون معي من هؤلاء وما هي هوية مصر؟ وما هو الضرر الذي وقع عليك أنت بالذات من جراء وصول الإخوان للسلطة؟
إنني أستطيع أن أعدد الأضرار التي وقعت علي شخصياً من جراء ذلك، لكن ماذا فعل الإخوان معك أنت؟!
فيبدو السؤال كما لو كان مفاجأة لمن يرددون كلاما صار يمثل أناشيد الصباح، فلا إجابة على سؤال الهوية، ولا إجابة على سؤال الضرر؟ ليبدو الأمر تفسيراً لمعنى «إدخال الغش والتدليس على الناس» وهو ما قام به الإعلام الموجه والدعاية في بداية الإنقلاب، وأعتقد أن هذه كله زال الآن، فدعايتهم كانت كقول ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى!
ولا توجد مناقشة جادة مع هؤلاء حول رسالة الانحياز لـ«الجزيرة» ضد السلطة في مصر، فما هي جريمة «الجزيرة» إذا كان من يقوم بالدفاع عن موكلهم محام فاشل، وأن المتهم اعترف بجريمته، التي ارتكبها في وضح النهار، والاعتراف سيد الأدلة!
فـ«الجزيرة» تدير الملف المصري، كما لو كان فقرة من برنامج “الاتجاه المعاكس” فالرأي الذي يمثل السلطة حاضر ويمنح الوقت ليمارس غوغائيته، ويثير الصخب، وهو أمر لا نجده في ملفات أخرى مثل القضية الليبية، مع وجود حالات الاستقطاب فيها، ربما لأن كل طرف لديه حجته الموضوعية، فلا نجد هذه الرعونة، وربما لأن طرفي الأزمة لديهما قناعة بأنهم يمثلون انحيازاهم، ولا يستهدفون إرسال رسائل لمولانا الذي في المباحث، فيثمن هذا، وهنا لا تكون هناك أهمية للمشاهد ومحاولة إقناعه، وهناك إحساس بطبيعة الحال أن قضيتهم خاسرة، وأنهم يقفون في المكان الخاطئ!
ولماذا تخسر «الجزيرة» ما اشتهرت به وهو الموضوعية في الميدان المصري وهو ما لم تفعله في قضية قطرية خالصة؟!
إن كل اتهامات دول الحصار ضد قطر نقلته «الجزيرة» لمشاهديها، وكانت حريصة في هذا الصراع الوجودي على أن يوجد هناك من يمثل هذه الدول، تماما كما فعلت في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، ولم يتردد برنامجها الخاص في «الشوشيال ميديا» يوميا عن نشر تغريدات لمنتسبين لدول الحصار!
فما الذنب الذي ارتكبته إن كانت في ذلك تضحك الثكالى عليهم وعلى ضعف حجتهم وتهافت مبرراتهم، فلماذا تجامل في «المشهد المصري»؟!
الحقيقة المرة على قلوب القوم، أن عداء الانقلاب العسكري لـ«الجزيرة» ومنذ اليوم الأول ليس بسبب انحيازاتها، فقد كانت لحظة اقتحام مكتبها في القاهرة تنقل المظاهرات المنحازة للانقلاب من التحرير، وتستضيف ثلاثة من الرافضين للدكتور محمد مرسي، وتديرهم مذيعة أعلنت عن توجهاتها بالاستقالة من الجزيرة، وبعد ذلك كانت تنقل مظاهرات التحرير ومظاهرات رابعة، لكن أهل الحكم الجدد، كانوا ضد هذه الحياد، ثم إن المعركة الحقيقية لم تكن معركة السيسي، ولكنها معركة الإمارات، والتي فشلت وإلى الآن في اطلاق قناة تبث من مصر تنافس «الجزيرة» منذ تجربة قناة «الحياة» وانتهاء بالتمويل السخي لشبكة «دي إم سي» حيث ذهب التمويل لصاحب «القسمة والنصيب» وأنتج مسخاً تلفزيونياً، ليس من المنطق أن نقارن ضعفه بقوة الجزيرة، لنقول بضدها تُعرف الأشياء، وأن الضد يظهر حسنه الضد!
التأثير في الناخب الأمريكي
المقارنة تكون بقنوات أخرى، مثل «العربية» و”العربية الحدث” و”سكاي نيوز عربية” و«بي بي سي» بل و«الحرة» و«فرانس 24». وقد تفوقت «الجزيرة» في تغطيتها على كل هذه القنوات، ربما لأن قنوات العجم تقوم على «جهل وإقلال» لكن المال لا ينقص قنوات «أبو ظبي» ولا تعوزها الرغبة في التفوق، لكن المشكلة في الرسالة، فالقوم يمارسون الإعلام الموجه، وكان يمكنهم التأثير في إرادة الناخب الأمريكي، فالسلطة في أبو ظبي منحازة لترامب لذا فإنها تعتمد روايات مضحكة عن تزوير الانتخابات، الأمر نفسه حدث في القاهرة، ووصف مراسل قناة «صدى البلد» من واشطن الانتخابات الأمريكية بـ «الكوميديا السوداء» وبعد قليل كان هذه اتجاه الأبواق الإعلامية في كتاباتهم، وكيف أن «بايدن» مصاب بالخرف، وأن الانتخابات الأمريكية زورت!
فالقوم لا يستهدفون فقط التأثير على الناخب الأمريكي، لكنهم الى جانب هذا لديهم رسالة محددة وهي أن تزوير الانتخابات ليس اختصاصاً مصرياً، ولكنه يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، وأن عليهم القبول بالنظام المستبد فحتى أمريكا يحكمها الاستبداد وغياب الديمقراطية، لأنهم خشوا مع هذا الاهتمام اللافت للمصريين هذه المرة بالانتخابات الأمريكية، من الغيرة التي تنتج رفضاً لنظام الحاكم العسكري، تماما كما حارب محمد بن زايد وحكام السعودية الربيع العربي خوفاً من تأثيره على شعوبهم!
وأقوام محملون بكل هذه الأعباء، هل يمكن أن ينافسوا «الجزيرة»؟!
*عن “القدس العربي”
**صحافي مصري