حين يصبح الحب كالوجبات السريعة…

0

منار رامودة

يقال بأن العواطف مثل الزجاج عندما تتشقق تنتهي، وكل محاولة لرتقها لن تزيد الشقوق إلا اتساعا.

وبالحديث عن العواطف ليس هناك أسمى من الحب لنتحدث عنه. تلك العاطفة النبيلة والراقية، ذلك الإحساس الغريب والجميل الذي يخترق لواعج النفس ويتخذ من خبايا الروح مسكنا له. ذلك الشعور الفريد والمتفرد الذي يرمي بسهامه في قلوبنا دون سابق إنذار أو استئذان.

لا أحد منا ينكر حقيقة أن الحب هو أساس الحياة فبدونه تفقد الأشياء معناها، ويصبح الإنسان يعيش حياة فاقدة للروح وللطعم. ولا يغيب عن أحد منا أن الحب يبدأ من الذات نفسها. فقبل أن نحب الآخرين علينا أولا أن نحب أنفسنا وأن نعتني بها لأنه وكما يقال “فاقد الشيء لا يعطيه”.

إن هذه المقولة صحيحة مائة بالمائة.. فالشخص الذي يجد نفسه عاجزا عن حب ذاته وتقديرها فهو بدون شك عاجز أيضا عن حب الآخرين وتقديرهم.

في الحقيقة إن حاجة الإنسان للحب هي كحاجته للهواء الذي يستنشقه.. فالحب هو إكسير الحياة، دافع من الدوافع الأساسية التي تشجعنا على تحقيق أهدافنا، لأننا وببساطة نتطلع إلى تحقيقها بكل حب وشغف. لكن وللأسف الشديد إن تلك العاطفة النبيلة سرعان ما اندثرت معانيها الجوهرية وآلت إلى أخرى مادية واستغلالية بطبيعتها. فالحب في عصرنا أصبح مشابها للوجبات السريعة، التي لا طعم ولا روح لها فكل ما تفعله هي إشباع رغبتك أو حاجتك للأكل ليس إلا.

لقد أصبحت جل العلاقات الإنسانية قائمة على مبدإ الاستغلال والخداع والغش أكثر من الحب والصدق. وعندما نتحدث عن الحب فليس بالضرورة أن نعني فقط ما يجمع بين الرجل والمرأة من أحاسيس، وإنما أيضا الحب الذي يغيب عن أوساط الأصدقاء، وعن التجمعات العائلية، وعن اللقاءات مع الجيران والأهل، عن غياب ذلك الإحساس في حضن أب أو ضمة أم أو عناق أخ أو ابتسامة صديق…

وبالرغم من تعدد الأسباب وراء فقدان الحب لجوهره وجبلته الأصلية، إلا أن السبب الرئيسي يتجلى في ما أصبحنا عليه من جفاف عاطفي وروحي، فنجد أن المؤمن الذي ترتكز علاقته مع ربه على مبدإ الحب أصبح هو الآخر يعاني من برود عاطفي.. ففي نهاية المطاف وكما يذكر الكاتب المصري مصطفى محمود في كتابه الروح والجسد فإن العلاقة بين العبد وربه هي علاقة حب، وأن ما دونها هي علاقات يجب أن تقوم على مبدإ المودة والرحمة، ذلك لأن الله دون سواه سبحانه هو من يستحق أن نبادله تلك العاطفة السامية التي تليق بجلالته ومكانته. أما فيما يتعلق بعلاقاتنا مع الآخرين فيجب أن تتسم بسمات الرحمة والمودة، لأن أي حب لدون الله هو مهدد بالزوال. لذلك عندما يتحدث الله في كتابه الكريم عن العلاقة بين الرجل والمرأة فإنه يخصها بمبدإ المودة والرحمة. لكن مادية العصر وانتشار صور مغلوطة عن العلاقات الإنسانية التي يوحدها الحب والتي يتغنى بها بعض المغنيين أو التي نجدها تتصدر مشاهد الأفلام الرديئة، قد غيرت بل شوهت معنى الحب وجعلت منه سلعة للإعلانات والتجارة والربح.

وأي ربح تجنيه أي علاقة فاقدة للاحترام والإخلاص والصدق ؟! أي ربح تجنيه علاقة فاقدة للروح مبنية على الشهوة والرغبات الآنية التي سرعان ما تموت عند بدايتها؟ أي ربح تجنيه أي علاقة فاقدة للتقدير والتضحية والوفاء؟ أي ربح تجنيه أي علاقة كلمات الحب فيها تتعدى الكلمات الموجودة في أكبر قواميس اللغة؟ أي ربح تجنيه أي علاقة محورها الجنس وجرعاتها اليومية هي كلمة أحبك!؟؟

“كم من الصعب أن يقول إنسان لآخر أحبك، كلمة من ثلاثة أحرف لكنها كفيلة بجعلك تمرض” (واسيني الأعرج, طوق الياسمين).. الحقيقة كم من الصعب أن تصبح كلمة أحبك تافهة، رديئة، متداولة على الطرقات، على كراسي المقاهي، بين الأزقة والشوارع، على الهواتف، والمكالمات النصية… كم من الصعب أن تفقد جل ما كانت تلخصه من أرقى وأنبل المشاعر بل وأطهرها! كم من الصعب أن يقولها الجميع وألا يشعر بها إلا قلة!

يجب على الجميع أن يدرك بأن من أخطر آفات العصر هي آفة المشاعر الكاذبة، واستغلال الحب من أجل تحقيق الأهداف المادية والحيوانية، واستعمال كلمات الحب كوسيلة لتفريغ مما يعانيه الفرد من فراغ روحي وانعدام أخلاقي .

فليحاول كل منا أن يكون صادقا مع ذاته، أن يحبها، وأن يسمو بها إلى إنسانيته عوض تدنيسها برغباته الحيوانية التي تضيع عليه فرصة أن يسعد بما هو عليه كإنسان قادر على الحب والاحترام، بل على الاحترام قبل الحب لأن الحب الفاقد للاحترام هو مضيعة للوقت ليس إلا. فليس من المهم أن نحب بعضنا إن لم نكن نحترم بعضنا البعض ونهتم ببعضنا البعض، فالحب الذي يغيب عن أنفاسه عبير الاهتمام والود هو حب يعيش عالة على قلوبنا، يصبها بالمرض دون أن يؤمن لها شفاء الروح ونقاء النفس.

فلنحب بصدق ثم بصدق، ثم بصدق فإن غاب الصدق غاب الحب.

 

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.