الملك تجاوب مع “جيل زد” ولكن ليس بلغة “فهمْتكُم” المرتعبة!
نورالدين اليزيد
نورد هنا رأينا بتفصيل في خطاب العاهل المغربي الذي ألقاه أمام البرلمان يوم أمس الجمعة، عطفاً على تدوينتي السابقة التي لقيت تفاعلاً معتبراً، والمتعلقة بـ”الأسف” على ما جاء في الخطاب الملكي، لأنه لم “يتفاعل مع الغليان الشبابي في الشارع” بنفس حماسة الشباب المحتج، والمقصود والمأمول طبعا كان هو توقّع حديث الخطاب الملكي عن هذا “الحراك المجتمعي” الذي بالنظر إلى حِدته أُطلق الرصاص على متظاهرين (أو مخربين)، وأزهقت فيه أرواح، (توقُّع) حديث بلغة قوية ومفهومة ومبسطة أكثر يفهمها ويتلقاها الرأي العام بكل فئاته بترحاب، لا أن تكون لغة وخطابا سياسيا يفهمه فقط نخبة المجتمع بمن فيهم المثقفون والسياسيون الذين يستطيعون التقاط رسائلها المشفرة وغير المشفرة.

بل إن المتابع وجد خطابَ الملك، في بعض مناحيه، يتبنى حرفيا توجهات الحكومة وأجندتها، وأكثر من ذلك يقدم لها وحتى للبرلمان ما يشبه الأعذار، من خلال إشارته إلى “إطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية (…) من القضايا الكبرى التي تتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني”، أي أن نتائج البرامج الحكومية التنموية، قد لا تتحقق في ظل هذه الحكومة وفي عهد هذا البرلمان!
وإذا أضفنا إلى ذلك حديثَ الملك، بصفته المؤسساتية كدولة، (بما في ذلك الحكومة طبعا) واستعماله “نون الجماعة المتكلمة”، قائلا: “نعمل على استفادة الجميع، من ثمار النمو، ومن تكافؤ الفرص بين أبناء المغرب الموحد، في مختلف الحقوق، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها”. وهو ما يعني أن الملك ما فتئ يعمل باستمرار على تحقيق كل الحقوق التي يستحقها الشعب. وإذا استحضرنا خرجات الوزراء بمن فيهم رئيس الحكومة، ردا على احتجاجات حركة “جيل زد” #GENZ212، فإن هذا هو ما قالوه تماما، وإن أقر بعضُهم بوجود بعض النقائص مُلمّحين إلى أنها قد تحتاج إلى “زمن حكومي” ربما أكثر لتداركها! هذا معناه أن الملك والحكومة، معاً، متفقان على وجود قصور في تمكين المواطنين من حقوقهم، وأن الملك هنا يقر ضمنيا بمسؤوليته ودوره في استفادة “أبناء المغرب” من “تكافؤ الفرص” و”ثمار النمو”!
قد يكون تعامل المخزن/الدولة مع الشعب مثل تعامُل الأم مع رضيعها، بحيث لا يمكنها صمّ آذانها عن صراخه، لأنها فقط تنتظر قليلًا لتتأكد من طبيعة الصراخ وأسبابه، حتى ولو تصاعد الصّراخ واستمر، قبل أن تبدأ بالتربيت عليه والدندنة له بغناء خافت لعله يتوقف عن الصراخ والبكاء، وإذا لم يعد ذلك يفيد في إسكاته، وتواصل صراخه وصداعه، فإن اللجوء إلى التشخيص الطبي يصبح حينئذ حاجة ملحة ومفروضة على الأم/الدولة.
هذا التداخل إلى حد التماهي، بين فحوى وروح الخطاب الملكي مع تصريحات الحكومة، يعتبر جوابا وردّاً على أصحاب القراءة الدستورية السطحية التبسيطية، الذين منهم مَن تحدّث بحُسن نية، ومِنهم من فعل ذلك بتدليس وتلبيس، ولحاجة في نفس “يعقوب الحكومة”؛ والذين ذهبوا إلى تبرير غياب التفاعل الصريح والمباشر والناجع للخطاب الملكي مع احتجاجات الشارع، بالقول إن دستور 2011 الذي جاء نتيجة احتجاجات “الربيع العربي” في تلك السنة، يُقيّد يد الملك، باعتبار أنه منح صلاحيات واسعة للحكومة ولرئيسها. بل إن من هؤلاء من ذهب إلى حد الحديث عن “تنازُل” الملك، بمقتضى الدستور الحالي، عن سلطاته التنفيذية، لفائدة رئيس الحكومة، وهذا خطأ فادح، وقصور بين في تقديم قراءة متأنية وعميقة لِمَتن هذا الدستور.
لأن تبني أصحاب هذه القراءة الدستورية نسوا أو تناسوا المقتضيات الصريحة التي حبل بها الدستور، والتي تخول للملك التدخل، بل القيام بواجبه الدستوري، في ضمان حقوق المواطنين في الصحة والتعليم والشغل وغير ذلك؛ باعتبار أن الملك هو جزء لا يتجزأ من الدولة، بل هو رئيسها والفاعل الأقوى والقار، وهذا ما ينص عليه بوضوح لا يحتمل اللبس الفصلُ 42 من الدستور (الملك رئيس الدولة…)، بينما الفصل 31 من الدستور، من جهته، يُلزم الملك -وبدون لُبس أيضا- إلى جانب الحكومة وباقي المؤسسات العمومية والمجالس الجماعية، بتعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في الصحة والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والحق في تعليم ذي جودة، وفي التكوين المھني، والسكن اللائق، والشغل، وولوج الوظائف العمومية، والحصول على الماء، والعيش في بيئة سليمة، والتنمية المستدامة.
بناء على ما سلف، نستطيع القول إن الخطاب الملكي، ردّ على الحراك الشبابي، ولكن ليس بما توقعه عامة الناس أو المتوجسون من أن تتسع الاحتجاجات وتتطور إلى ما قد لا تحمد عقباها، لا قدر الله، وإنما ردُّ الملك جاء بالطريقة المخزنية العريقة المرعية، التي تضمن للدولة/المخزن أنفتَها وكبرياءَها، بعيدا عن الطريقة أو الطرق التي قد تجعل البعض يتصور بأنها رضخت أو ترضخ بسهولة وبسرعة للاحتجاجات الشعبية. والشاهد على ذلك الأكثر سطوعا، أن حتى الاحتجاجات العارمة خلال “الربيع العربي” سنة 2011، التي اندلعت في معظم مدن ومناطق المغرب، وبزخم أكثر حتى من احتجاجات “جيل زد” الحالية، فإن الدولة انتظرت حينها 18 يوما على الأقل وهي تراقب وتتابع الأوضاع الهائجة المائجة، محليا وإقليميا، وبالرغم أيضا من أن الأحداث بالمنطقة كانت عاصفية، وعدوى الاحتجاجات كانت تنتشر بين الدول العربية كالنار في الهشيم. قبل أن يعلن القصر الملكي عن خطاب 9 مارس 2011، ثم يخرج الملك، رئيس الدولة، ويخطب في الشعب، ولكن ليس بلغة “فهمْتكُم” المرتعبة، التي تبناها الرئيس التونسي الآيل للسقوط وقتئذ (زين العابدين بنعلي) مع شعبه المنتفض، وقبل أن يمتطي طائرة الفرار خارج بلاده، وإنما بخطاب سياسي ملكي هادئ، متجاوب مع مطالب الشارع بشكل جذري، ومعلنا عن إصلاحات دستورية ومؤسساتية غير مسبوقة. وكان واضحا حينها أن الجالس على العرش حرص على أن لا يتنازل عن “عزة نفس” سلاطين المخزن، وهو يدبج مقدمة خطابه بما يفيد بأن ما سيكشف عنه في ذاك اليوم (9 مارس)، ليس رضوخَ المتوجس المتخوف عن حُكم أو نظام هشّ من السقوط، وإنما يعتبر حلقة في مسلسل إصلاحٍ طويل ومتواصل، قد بدأته المؤسسة الملكية، حتى قبل انطلاق احتجاجات “حركة 20 فبراير”، عندما قال مخاطبا الشعب: “أخاطبك اليوم، بشأن الشروع في المرحلة الموالية، من مسار الجهوية المتقدمة، بما تنطوي عليه من تطوير لنموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز، وما تقتضيه من مراجعة دستورية عميقة، نعتبرها عمادا لما نعتزم إطلاقه من إصلاحات جديدة شاملة، في تجاوب دائم مع كل مكونات الأمة”.
وعلى سبيل الختم، فإن “غضب الشارع”، قد وصل إلى من يهمهم الأمر، وأولهم الملك رئيس الدولة، وإلى الحكومة، وهو ما عبرت عنه الأخيرة تصريحاً وعبر عنه الأول تلميحاً، ولكن طبيعة إدارة وتدبير الحُكم في التجربة المغربية، تفرض نهْجا معّقدا، ويتطلب وقتا معتبرا للاستجابة والتفاعل مع المطالب الشعبية، وقد لا يكون بطريقة آلية وآنية، بالضرورة، حتى يخال المرءُ أن الصوتَ الغاضب لا يجد آذانا صاغية من لدن المسؤولين المغاربة. وربما قد يكون تعامل المخزن/الدولة مع الشعب مثل تعامُل الأم مع رضيعها، بحيث لا يمكنها صمّ آذانها عن صراخه، لأنها فقط تنتظر قليلًا لتتأكد من طبيعة الصراخ وأسبابه، حتى ولو تصاعد الصّراخ واستمر، قبل أن تبدأ بالتربيت عليه والدندنة له بغناء خافت لعله يتوقف عن الصراخ والبكاء، وإذا لم يعد ذلك يفيد في إسكاته، وتواصل صراخه وصداعه، فإن اللجوء إلى التشخيص الطبي يصبح حينئذ حاجة ملحة ومفروضة على الأم/الدولة.
ملحوظة: هذه المقالة نشرها كاتبها بداية الأمر على حسابيه في فيسبوك وإكس على شكل تدوينة مطولة