وماذا عن الأمنيين الذين يعانون في صمت مُحزِن؟!
نورالدين اليزيد
في الأسبوع الماضي قضت المحكمة الابتدائية بالرباط بـ8 أشهر حبسا نافذا في حق عميد شرطة ممتاز موقوف عن العمل، وأدانت المحكمة أربعة سائقي سيارات أجرة صغيرة بـ8 أشهر حبسا نافذا وأربعة أشهر موقوفة التنفيذ، وذلك في ملف المطاردة الهوليودية التي شهدتها شوارع العاصمة الرباط أواخر شهر ديسمبر 2024، وكان أبطالَها سائقو طاكسيات ومواطن يستعمل تطبيق “إِن درايف” للنقل، وهي الحادثة التي وثّقتها هواتف المواطنين لتكون موضوع تنديد واستهجان في مواقع التواصل الاجتماعي طيلة أيام.

اليوم والمحكمة تبث في الملف وقد أصدرت حُكمَها وقُضي الأمر، في انتظار الاستئناف، فإن المواطن لا يمكنه إلا أن يشد بحرارة على يد القضاء، وعلى التعاطي السريع للمؤسسة الأمنية والشرطة القضائية التي تدخلت بالسرعة اللازمة لتنفيذ القانون، ولكن ما يجب أن يتوقف عنده المتتبع ويسلط الضوء عليه، ليعلمه الرأي العام، هو أن المُواطن الذي كان هدف المطاردة المثيرة مِن قبل سائقي الطاكسي، ليس مواطنا عاديا أو عاطلا عن العمل، وإنما هو عميد ممتاز (كوميسير)، كان يدير دائرة أمنية في العاصمة وطاله توقيف إداري، ولأنه كان يعيش ضائقة مالية، فإنه اضطر إلى الانخراط في تطبيق “إن درايف” لكسب قوته اليومي وقوت أسرته!
إنه شيء صادم ومؤسف حقًّا لحد الحسرة حتى البكاء أن يُضبط كوميسير في هذا الوضع المهين، وهو مطارد من قبل مهنيي سيارات الأجرة لأنهم يرون أنه اقتحم عليه مهنتهم بطريقة غير قانونية، مع أن هؤلاء لو كانوا يعرفون حاله ومآله، لما فعلوا ما فعلوا به، ولأشفقوا عليه أيما إشفاق..
ضابط في صفوف الأمن الوطني، من أطيب خلق الله كما وصلتنا معلومات من مقربين منه، يوقف عن العمل من قبل إدارته لسبب أو لآخر، ويُعيل أسرة من طفلين ووالدة وزوجة، ويتوصل بإشعار من البنك لعدم توصله باقتطاعات دَيْن الشقة التي يسكنها، فلا يجد مخرجاً إلا أن يُشمر على ساعديه للتخفيف عن كربته، فيلتجئ إلى مهنة رأى أنها قد تحفظ له بعض الكرامة وتضمن له بعض الستر، وبعض العائد المادي، قبل أن يُصدم وتُصدم عائلته ومقربوه وأصدقاؤه وزملاؤه على وقْع التورط في جنحة كادت أن تتحول لا قدر الله إلى جريمة خطيرة، بعد كل الخطر المحدِق الذي كان يتهدد مستعملي الطريق..
ليس الإعلام هو فتح الصفحات للاحتفاء بالمسؤولين الكبار ببذخ، ونسج وحبك الأعمدة وحجز المقالات لهم مديحا وثناءً سخيا مثيرا للشفقة أكثر من الشبهة، وعندما يتعلق الأمر بمعاناة المنتسبين من الموظفين الأقل درجة، تُطوى الصحف وتَجِفُّ الأقلام لأنهم “الحيط القصير” في المعادلة، ولكن الإعلام الحر النزيه، هو الذي يصطف أولا وقبل كلِّ شيء وقبل أيٍّ كان، إلى جانب الأصوات غير المسموعة والأشخاص العاملين في الظل، الذين يعانون في صمت إلى أن تتفجر مشاكلُهم في صدورهم حيث يخفونها، وفي رؤوسهم حيث يفكرون بها لوحدهم، فتكون الكارثة ويكون الوبال عليهم وعلى أسرهم وعلى الوطن بطبيعة الحال..
قبل هذا الحكم بأسبوع، نقلت لنا تقارير اسبانية أن شُرطيا كان يعمل بمعبر سبتة المحتلة، قرر في لحظة إحباط أو غضب أو انتقام أو لأي سبب آخر يعلمه الله، أن يخلع لباسه الرسمي ويضع سلاحه الوظيفي جانبا ويعبر إلى الجهة الأخرى من الحدود الوهمية ليعبر ويقدم امام السلطات الاسبانية هناك طلب لجوء إلى اسبانيا، رُفض على الفور وصدر قرار ترحيله، لتُقدم محامية تسانده طعنا في القرار، فيعلق القضاء الاسباني قرار ترحيله إلى أجل غير مسمى !!
وكثيرة هي الأحداث المشابهة، تقريبا، التي يكون “أبطالَها/ضحاياها” إخوتُنا وأبناؤُنا وأحِباؤنا من رجال ونساء الأمن، والتي قاسمها المشترك وسببها الرئيسي، بالأساس وفي غالب الأحيان، هو صعوبة ظروف عملهم بالجهاز أو الأجهزة الأمنية؛ ولعل السنتين أو الثلاث السنوات الأخيرة، عرفت العديد من حالات “الحريگ” من قِبل رجال أمن استغلوا قضاء إجازاتهم السنوية بالخارج فلم يعودوا إلى أرض الوطن، وهو ما كان موضوع مذكرة داخلية حثت المسؤولين على التدقيق والتشديد في منح الإجازات لمنتسبي الأمن، وهو ما تطرقنا إليه سابقا. كما تطرقنا إلى حالات أمنيين وأمنيات، إما اشتكوا ظلمَ رؤسائهم وحالات مضايقة من قبل هؤلاء، وهو ما اضطر بعضَهم إلى “ترك الجمل بما حمل” والفرار إلى الخارج، مثل حال الضابطة وهيبة التي اتخذت قضيتها أبعاداً دولية وخارجية، وما كانت لتتخذ ذاك المنحى لو حضر التعقل والتريث في تدبير قضيتها. كما اضطر بعضهم حتى إلى وضع حد لحياتهم بالانتحار، في ظروف تثير علامات استفهام ولأسباب لا يعلم حقيقتها إلا الواحد القهار، وقد حملوا الإجابة عنها وبسْطَها للناس مع أرواحهم الطاهرة ليلقوا بها وجه الله، عسى أن يعفوَ عنهم لقاء معاناتهم وإحساسهم بالغبُن والضّيم والكرْب، فينطبق عليهم قولُه عز وجل “وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرْب العَظِيمِ”!
وفي الأيام الأخيرة، وعلى هامش احتفالات المؤسسة الأمنية بذكرى التأسيس الـ69 ( 16 ماي 1956)، مستحضِرة التزامَها بأداء واجبها في حماية الوطن والمواطنين بتفانٍ وانضباط وتدعيم الإحساس بالأمن، وتعزيز الدبلوماسية الأمنية للمملكة، وهي كلها التزامات واستحقاقات لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد أو متربص بالمؤسسة وبباقي مؤسسات الوطن، انتقد صاحب هذه التدوينة التهافتَ المبالغ فيه على كيل المديح بلا حدود وبلا حتى تحفظ مهني، من قِبل أقلام ومنابر إعلامية، لمدير مؤسسة الأمن الوطني ومدير المخابرات الداخلية (ديستي)؛ وانبرينا في انتقادنا، بهذه المناسبة وبدونها من المناسبات السابقة، إلى التنبيه بعدم السقوط في التبجيل غير المبرر لحد التقديس للمدير العام، الذي نُكن له كل الاحترام على كل حال، وإلى عدم التغاضي عن كون المرفق الأمني ليس إلا مرفقا كباقي المرافق العمومية للدولة، التي لها ما لها وعليها ما عليها. وإذا كانت في عهد المدير الحالي السيد عبداللطيف حموشي قد حققت الكثير من الإنجازات والمكاسب، سواء للوطن والمواطنين أو للمنتسبين إليها، فإن كل ذلك لا ينفي كذلك وجود الكثير من جوانب النقص التي ما تزال تعشعش في إدارتها وبين مسؤوليها، وهو ما يؤثر بالسلب على شرائح واسعة من العاملين بهذا المرفق!
وعندما تطالعنا الأخبار والمعطيات المسربة من مقربي الضحايا ومن يُعانون الحيف بهذا الجهاز الوطني الحيوي، بأن الضائقة المالية بالأساس تتبعها ظروف العمل وغيرها من المشاكل، هي التي تجعلهم يكفرون بالعمل بها ويهجرونها أو يسقطون ضحايا ذلك، تماما كما هو حال الضابط الذي حكمت عليه المحكمة مؤخرا على خلفية حادث مطاردة سائقي الطاكسيات له، فإن المسؤولية تنتصب قائمة وثابتة ضد الإدارة والإدارة الوصية؛ ويكفي مثلا تذكيراً بأن الكوميسير المحكوم عليه الموقوف عن عمله، عند توقيفه رافقَه أيضا توقيف أجره قبل حتى اتخاذ المتعين قانونيا ضده، وهو ما جعله يفقد دخله الشهري، ويفقد بالتالي إمكانية إعالة أسرته. وهذا الوضع مختلف عن ما هو معمول به مثلا لدى زملاء الأمنين من سلك الدرك الملكي، الذين رغم توقيفهم عن العمل نتيجة تجاوز مهني ما، فإن استفادتهم من أجورهم لا تتوقف إلا بصدور حكم قضائي نهائي!
أخيرا، ليس الإعلام هو فتح الصفحات للاحتفاء بالمسؤولين الكبار ببذخ، ونسج وحبك الأعمدة وحجز المقالات لهم مديحا وثناءً سخيا مثيرا للشفقة أكثر من الشبهة، وعندما يتعلق الأمر بمعاناة المنتسبين من الموظفين الأقل درجة، تُطوى الصحف وتَجِفُّ الأقلام لأنهم “الحيط القصير” في المعادلة، ولكن الإعلام الحر النزيه، هو الذي يصطف أولا وقبل كلِّ شيء وقبل أيٍّ كان، إلى جانب الأصوات غير المسموعة والأشخاص العاملين في الظل، الذين يعانون في صمت إلى أن تتفجر مشاكلُهم في صدورهم حيث يخفونها، وفي رؤوسهم حيث يفكرون بها لوحدهم، فتكون الكارثة ويكون الوبال عليهم وعلى أسرهم وعلى الوطن بطبيعة الحال..
نسأل الله السلامة للجميع.
ملحوظة: هذه المقالة نشرها كاتبُها في البداية على حسابه في فيسبوك