أسسها مقاومون قبل 73 سنة.. هكذا أصبحت وكالة “فرانس برس” من عمالقة نقل الأخبار
كان ذلك في 20 غشت 1944 قبل خمسة أيام من تحرير باريس. قامت مجموعة صغيرة من المقاومين باجتياح “مكتب الإعلام الفرنسي” الذي أقامه نظام فيشي المتعامل مع المحتل الألماني، في خطوة أسست لقيام وكالة فرانس برس.
تواعد “المتآمرون” الثمانية على الالتقاء في الساعة السابعة صباح يوم أحد في 13 ساحة البورصة عند المبنى المترهل الذي كان مقرا لوكالة “هافاس”، أقدم وكالات الأنباء في العالم، قبل أن تسيطر عليها حكومة فيشي عام 1940 وتحولها إلى “مكتب الإعلام الفرنسي”.
وجرى ذلك بعد يومين على تعبئة عامة أعلنها الزعيم الشيوعي المقاوم هنري رول تانغي الذي قاد معركة تحرير باريس من الداخل على رأس وحدة “القوات الفرنسية الداخلية” الناشطة في المنطقة الباريسية.
وكان معظم عناصر المجموعة صحافيين سابقين في وكالة هافاس وهم جيل مارتينيه ومارسيال بورجون وبيار كورتاد وماكس أوليفييه وجان لاغرانج وفينسان لاتيف وبازيل تيسلين، وانضم إليهم كلود روسيل المتخرج حديثا من المدرسة العليا للمعلمين (إيكول نورمال سوبيريور).
وقال جيل مارتينيه لاحقا إن هافاس “تحولت إلى وكالة للدعاية الألمانية”.
أول خبر
كانت تتردد بين الحين والآخر أصوات طلقات نارية في شوارع باريس المقفرة وسط قيظ الصيف الخانق. وعلى مقربة كانت دبابة ألمانية متوقفة في شارع 4 سبتمبر.
انسلت الوحدة الصغيرة التي كان يرافقها عنصران من الدرك أرسلتهما لجنة التحرير الباريسية وكانا الوحيدين اللذين يحملان سلاحا، صاعدة أدراج المبنى واقتحمت قاعة التحرير، مباغتة المحررين العشرة فيها.
أعلن مارسيال بورجون “لا أحد يتحرك، لا أحد يخرج! من الآن فصاعدا، ستعملون لحساب فرنسا بدل العمل لحساب الألمان”. بقي الموظفون جميعهم مسمرين في أماكنهم. قبض المقاومون على ألماني كان رقيبا على العمل، فاقتادوه إلى الطابق تحت الأرض واحتجزوه فيه.
ووزع عناصر الوحدة المسؤوليات في ما بينهم، فتولى مارسيال بورجون، الأكبر سنا بينهم، إدارة المكتب فيما عين جيل مارتينيه رئيس تحرير.
سرعان ما تواصلت المجموعة مع طواقم الصحف المقاومة الناشطة سرا “كومبا” (كفاح) و”ديفانس دو لا فرانس” (الدفاع عن فرنسا) و”لو باريزيان ليبيريه” (الباريسي المحرر) و”لومانيتيه” (الإنسانية) وغيرها.
وفي الساعة 11,30 نشر أول خبر: “قريبا تصدر أولى الصحف الحرة. الوكالة الفرنسية للصحافة توجه إليها خدمتها الأولى…” وظلت الأخبار حتى نهاية المعارك تطبع على طابعات “رونيو” بدائية ويوزعها فتيان على دراجات على الصحف.
وفي 23 من الشهر قام فيرنان مولييه مع صحافيين آخرين يعملون من لندن بوضع أسس وكالة فرنسية مستقلة تملك بوادر شبكة دولية، فتم الربط بين صحافيي المقاومة وصحافيي فرنسا الحرة.
وسرعان ما نظم فريق ساحة البورصة عمله. فكان الصحافيون ينامون في المقر ووضعوا أيديهم على مخزون مطعم “كانوتون” القريب الذي استخدمه الضباط الألمان مقصفا، فجمعوا منه مأكولات فاخرة ونبيذا راقيا.
كان الصحافيون يجوبون بدراجاتهم محيط باريس مترقبين قدوم القوات الحليفة وجنود الفرقة المدرعة الثانية الفرنسية. وفي مقر الشرطة المحلية، نصب بازيل تيسلين خطا هاتفيا مباشرا في حمام شقة رئيس الشرطة. وفي 25 من الشهر، كان هو أول من أعلن دخول الجنرال لوكلير العاصمة الفرنسية على رأس فرقة من القوات الفرنسية الحرة.
نموذج جديد
روى بازيل تيسلان لاحقا “كل شيء تقرر قبل شهر: الاستراتيجية والتكتيك وخصوصا الهدف”، وهو كان إعادة إنشاء وكالة أنباء فرنسية كبرى يصل صوتها إلى جميع أنحاء العالم، على أنقاض وكالة هافاس التي تأسست عام 1835.
لكن هافاس كانت شركة خاصة مؤلفة من فرعين، أحدهما إخباري والثاني إعلاني. ويوضح “سئم الرأسماليون الذين كانوا يديرون الشركة من رؤية الأخبار تبتلغ جزءا كبيرا من الأموال التي تجنيها الإعلانات. وهذا ما أدى إلى الفصل بين النشاطين عام 1935، ودخول الدولة حكما إلى فرع الأخبار مقابل مساعدة”.
وكتب بازيل تيسلان في مذكراته “لم نكن نريد أيا من هذين العائقين: لا الإدارة الخاصة، وهي متقلبة الأطوار ومتمسكة بالمصالح المالية حصرا، ولا تدخل الدولة (…) الأقل حرصا على مصلحة فرنسا منها على مصلحة الحزب الحاكم”.
واستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتبلور وضع وكالة فرانس برس الأول من نوعه. وحدده قانون أقرته الجمعية الوطنية بالإجماع في 10 يناير1957، يضمن للوكالة استقلاليتها.
وكالة فرانس برس التي لا يزال مقرها في ساحة البورصة، هي اليوم واحدة من أكبر ثلاث وكالات أنباء في العالم إلى جانب رويترز وإيه بي، ويتوزع صحافيوها على أكثر من 150 دولة.
الناس /ا.ف.ب