توفيق بوعشرين يستصرخ ضمائرَنا*
علي أنوزلا**
مرّت يوم 23 فبراير الجاري الذكرى السادسة لاعتقال الصحافي المغربي توفيق بوعشرين، الذي يبدأ عامه السابع وهو مغيّب وراء القضبان في بلده. ومع حلول كل ذكرى لاعتقاله أستحضر الزميل والصديق والقلم المتميّز الذي يفتقده قرّاء مقالاته المُحكمة وتحليلاته الرّزينة ورصانته المهنية. وبالنسبة لي، أفتقد الإنسان الذي عرفته عن قرب، ورافقته في تجارب صحافية عديدة، ووقفتُ على عمق نبله الإنساني ورهافة حسّه الأخلاقي، وهذا ما يجعلني أتألم وأحزن للحال الذي آل إليه وضعُه، وأتمنى أن تكون محنتُه التي طالت في معتقله مجرّد لحظة عابرة نحو ذلك البرّ الآمن المفعم بالحرية! ولا أملك هنا سوى أن أقول له أن يتشبث بمزيد من الأمل، وأنا أردّد مع الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي:
“الأمل ذروة اليأس يا صاحبي
توجّع قليلاً…
توجّع كثيراً…
توجّع…
فإنّ الأمل ذاته مُوجع
حين لا يتبقى سواه…”.
لستُ هنا لأستعرض مسلسل محاكمات توفيق بوعشرين، ولا السياقات السياسية التي جرت فيها، أو الشكوك التي طاولت عدالة جلساتها الماراثونية، عن حقٍّ أحيانا أو عن غير حقٍّ أحيانا أخرى، ولن أعيد نكء الجراح التي لم تندمل، سواء من ألم المشتكيات وصرخاتهن وما عانينه من محاولات استغلالهن من كل الأطراف التي تداخلت وتقاطعت مصالحُها في قضية أجّجت النفوس وشَحَذَتها في الوقت نفسه من كل اتجاه، أو من مشاعر حزنٍ عميقٍ ما زالت تعتمل في نفوس أفراد الأسرة الصغيرة لتوفيق بوعشرين التي تكابد اليوم وحدَها وهي تعاني وتبكي في صمت. قالت العدالة كلمتها، أما الحقيقة، وكما يقول المثل المأثور، فنحنُ لا نقترب منها إلا بقدر ما نبتعد عن دنيانا.
حلول الذكرى السادسة لغياب صديقٍ وزميلٍ عزيز محزنٌ ومؤلمٌ لأصدقائه ومحبّيه الذين يفتقدونه حرّاً بينهم، لكنه كابوسٌ جاثم على صدور أفراد أسرة صغيرة، تكبُر معاناتها كل يوم منذ 2196 يوماً بالتمام، هي عدد الليالي الطويلة التي قضاها توفيق مُسهِّدا وهو مغيّب وراء القضبان. هي استمرار للمعاناة الصامتة لزوجةٍ تذوب مثل شمعة تحترق حتى تبقى بارقة الأمل مشتعلة تؤنس وحدة طفليْن في عمر الزهور، لا ذنب لهما يتعذّبان يومياً وهما يسألان أمهما بإلحاح بريء كل صباح: “متى يعود بابا إلى البيت؟”.
استمرار تغييب بوعشرين، وحرمانه من أسرته ومن حرّيته ومن قلمه، لن يجبُرا ضرر كل من اعتبر نفسه أو اعتبرت نفسها صاحبة حقّ، ولن يحققا للعدالة هيبتها، لأن العدل يتحقق أيضا بكثيرٍ من الإنسانية، ومن لجأ إلى العدل ترفّع عن الانتقام وتحلّى بالإنسانية، ألم يقل الله تعالى في كتابه المُحكم “لَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”.
ثمّة في المغرب كثير من هيئات الوساطة الرسمية وغير الرسمية، وكثير من الأصوات الشريفة التي تريد الخير لهذا البلد، وقد أصبح يتبوأ أعلى كرسي حقوقي في العالم برئاسته مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وأتمنّى أن يقوم كل هؤلاء بدور “المُيسِّر” في ولادة انفراج حقوقي، تماما كما حدث في سنوات ماضية، وفي سياقات وظروف أصعب من التي يمر بها الوضع الحقوقي اليوم في المغرب، أدّت إلى خروج معتقلين ومختفين ورفع القيود عن مضطهدين وعودة المنفيين. الدولة المغربية اليوم في أفضل الظروف للمبادرة من ذاتها لتجاوز حالة الانحباس التي طاولت ملفّات المعتقلين، بعد أن قطعت أشواطا في حلحلة بعضها، وإحداث انفراج حقوقي وسياسي يعيد إلى الأذهان تجربة “الإنصاف والمصالحة”، التي جاءت بقرار إرادي شجاع من الدولة، فما أحوج المغرب اليوم إلى مبادرة كهذه تفكّ عقدا كثيرة، وتساهم في عودة المعتقلين إلى أبنائهم وعائلاتهم. ففي النهاية، بقاء المعتقلين السياسيين من “حراك الريف” والمعتقلين الصحافيين ومعتقلي الرأي في السجن، من دون أن أنسى معتقلي “كديم إزيك” رغم كل التعقيدات والحساسية التي تطبع هذا الملف، لن ينفع أحدًا، وخروجهم منه لن يضرّ الدولة أو يمسّ هيبتها، وإنما سيعطى للمغرب مناعة كبيرة في الدفاع عن صورته بلداً يحمي ويصون حقوق مواطناته ومواطنيه.
في عزّ أزمة “كورونا” عام 2020، أصدر عديدون من شرفاء المغرب، من النساء والرجال السياسيين والحقوقيين والمثقفين الشجعان، نداء تحت عنوان “نداء الأمل”، موجّها إلى الملك محمد السادس، يلتمسون منه إصدار عفو ملكي شامل عن كل معتقلي حراك الريف والمعتقلين الصحافيين ومعتقلي الرأي، لأنهم رأوا أن من شأن هذا العفو أن يقوّي مناعة الوطن ويزيد منسوب الثقة في الدولة ومؤسّساتها، وأكثر من ذلك يبعث الأمل في مستقبل مشرق. وما زال صدى ذلك النداء يتردّد في انتظار أن يجد الآذان الصاغية والحكيمة التي تلتقط تردّداته وتستجيب لمطلب أصحابه وتُدخل الفرحة على بيوت أهالي المستفيدين منه. فعسى أن تكون هذه الذكرى فرصة أخرى للاستجابة لـ”نداء الأمل” لأنه نداء المغرب الممكن دائماً وأبداً الذي آمن به توفيق بوعشرين ودافع عنه في افتتاحياته في أكثر من مناسبة وسياق، ولأن التطلّع إلى حرّيته هو، في الوقت ذاته، تطلُّع إلى حقّ أطفاله وأسرته في الإسعاد والفرح اليومي حين يطرق باب البيت ويكون الطارق الأب ويفتح الأبناء الباب.
*عن موقع “لكم2”
** مدير نشر موقع “لكم2”