دلالات الاعتداء على الدستور المصري ونتائجه

0

جمال سلطان

على الرغم من أن أغلب التوقعات كانت تذهب إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سيقدم على تغيير الدستور الحالي ، وأن هناك إشارات واضحة صدرت منه تكشف عن عدم رضاه عنه وقوله علنا أنه “كتب بنوايا حسنة” ، والمدفعية الإعلامية والبرلمانية الموالية له ضربت طلقاتها مبكرا تتحدث عن أهمية تعديل الدستور ، إلا أن الإعلان الرسمي عن بدء خطوات تغييره من خلال تحرك مجلس النواب مؤخرا ، فجرت موجة غضب وقلق واسعة في مصر وخارجها ، نظرا لحجم الاعتداء وشموليته ، والمخرجات السياسية والدستورية التي يمكن أن تنتج عنه وتنهي فكرة وجود الدولة ومؤسساتها من الأساس ، وتصادر كل شيء من أجل شخص واحد يحكم مؤسسة واحدة ، والباقي ظلال وخيالات لا وجود حقيقي لها .

إصرار السيسي على تغيير الدستور الآن ، وليس غدا ، رغم أن أمامه ثلاث سنوات ونصف تقريبا في فترته الرئاسية الثانية ، يكشف في حقيقة الأمر عن الخوف من المجهول ، والخوف من الغد ، وضعف الثقة في المستقبل ، وغياب اليقين باستقرار سفينة الحكم ، وبالتالي هناك حالة من التشنج و”القفش” الشديد على مفاصل كل شيء بدافع الخوف ، والرغبة في مصادرة كل شيء ، والسيطرة على كل شيء ، وعدم ترك أي مساحة لأي جهة على الإطلاق للتحرك أو التنفس ، فالحركة والنفس لا يصدر إلا منه أو بإذنه ، فالخوف ـ في الحقيقة ـ هو الذي يحكم مصر الآن ، سلطة وشعبا .

باستثناء الفترة العصيبة التي حدثت في سنة حكم الرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسي نظرا للانقسام الذي شهده الشارع عقب ثورة يناير ، لم يحدث أن ولد رئيس للجمهورية كل هذا الاضطراب والغضب والانقسام الوطني الحاد خلال أعوامه الأربعة أو الخمسة الأولى في الحكم ، كل المشكلات تظهر عادة في النهاية ، والسنوات الأخيرة ، حيث يبدأ التخبط وغرور السلطة والقرارات المستهترة بموازين السياسة ، السيسي وحده الذي أحدث كل هذه الجلبة والاضطراب والانقسام والغضب في سنوات قليلة ، ومن بداية حكمه ، فلم يبق له قوة سياسية صديقة أو واثقة ، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، إسلاميين ويساريين وليبراليين وقوميين متدينين ولا دينيين ، باسثتناء شخصيات سياسية محدودة وهامشية صنعتها الأجهزة الأمنية وتوجهها وتسمح لها بقليل من غنائم السلطة .

غير أن ما حدث بعد الإعلان عن تغيير الدستور أفزع الجميع ، حتى القضاة الذين يشعرون الآن بمستوى من الخوف والتهميش غير مسبوق ، بغض النظر عن مسألة صحة بيان نادي القضاة من عدمه ، فقد نزعت التعديلات المقترحة ما تبقى من استقلالية المؤسسة القضائية ، وأصبحت أشبه بإدارة ملحقة برئاسة الجمهورية ، ويمكن له أن يفوض وزير العدل في إدارة شئونها ، كما أنه أصبح يمتلك ـ وحده ـ قرار من يرأس أي سلطة قضائية ، سواء مجلس الدولة أو الدستورية أو النقض ، باختياره هو ، وتقديره هو وحساباته هو ومصالحه هو .

التغييرات التي تتعلق بالوضع السياسي للمؤسسة العسكرية هي صيغة نمطية لنظم الحكم العسكرية في المنطقة والعالم ، وكان هذا النص الذي يجعل الجيش حاميا للدولة والديمقراطية ، قد وضعه العسكريون الأتراك في تعديل دستوري بعد انقلابهم في 1960 ، حيث وضعت مادة عرفت برقم (المادة 35 من الدستور التركي) وكانت تنص على : (واجب الجيش صيانة الجمهورية التركية وحمايتها) ، وكان هذا النص هو المستند الذي برروا به كل الانقلابات العسكرية التي قاموا بها بعده ، وحلوا بها الأحزاب وألغوا البرلمان واعتقلوا مئات الآلآف من المواطنين وأعدموا الآلاف بتصفية جسدية مباشرة أو بأحكام قضائية ظالمة وشكلية ، وأدخلوا الدولة في دوامات من الفشل الاقتصادي واهتراء البنية الأساسية وتردي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية ، قبل أن تتمكن الحكومة الأخيرة ، حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة اردوغان في قصقصة ريش الجنرالات ، وتحجيم نفوذ العسكر في السياسة والاقتصاد تدريجيا ، وانتهاء بتعديل دستوري ألغى تلك المادة ، وأبدلها بنص يقول : (مهمة القوات المسلحة هي الدفاع عن الوطن التركي ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج ، وتنفيذ المهام الخارجية التي يوكلها البرلمان للجيش) .

صدرت من السيسي خلال السنوات الماضية أكثر من مرة تصريحات ، خاصة في الصحافة الأجنبية ، تحمل احتقارا للإنسان المصري وتقليلا من كرامة وحقوق الإنسان المصري ، والتأكيد على أنه يختلف عن الإنسان الأوربي ، لكن الذي حدث الآن هو احتقار الدولة المصرية هي الأخرى ، وتدميرها وإلغاء فكرة المؤسسية ، وتحويلها إلى مجرد ظل لا وجود له ، وصحيح أن السيسي كان قد صرح علنا من قبل بهذا الاحتقار للدولة عندما وصف مصر بأنها “شبه دولة” ولم تتحول إلى دولة بعد ، لكن لم يكن أحد يتصور أن يتحول هذا الوصف للدولة إلى نصوص دستورية تصادر فكرة الدولة وتدمجها في شخص واحد ، هو السيسي ، فهو ـ بموجب التعديلات الجديدة ـ مصدر كل سلطة ، ورئيس كل سلطة ، ومرجع كل سلطة.

الدستور هو تعبير عن ثقافات الشعوب ومراحل تطور الدول ، وهو متصل بميزان القوى الفعلي في الواقع ، لذلك يمكن لبعض الدول أن تمضي في حياتها السياسية والاقتصادية والقضائية والتشريعية بدون نصوص دستورية مكتوبة أصلا ، لأنها محفورة في الواقع ، كعرف قائم على توازن قوى راسخ لا يقبل اهتزازا ، بينما هناك دول تكتب فيها نصوص دستورية رائعة بالغة الرقي لكنها تعيش أسوأ الأوضاع الديكتاتورية ، فالنص إذا لم يكن يقابله واقع يحميه ويدعمه يصبح حبرا على ورق لا قيمة له ولا يحترمه أحد ، لأن هيبته مستمدة من هيبة الواقع ، والذي حدث في مصر خلال الأعوام القليلة الماضية هو أشبه بذلك ، فالدستور كان مجرد حبر على ورق ، أو أقرب إلى تنظيم إداري للهياكل والمؤسسات ، بينما حركة التشريع والتنفيذ والتوجيه السياسي لها دستورها الخاص غير المعلن .

لذلك ، ينبغي أن تكون معركة حماية الدستور التي أعتقد أنها بدأت الآن في مصر ، هي معركة مستمرة وممتدة ، لانتزاع توازنات قوى سياسية في الواقع وترسيخها ، تجعل للدستور قيمة وثمنا ، والدستور الحالي يمكنه أن يفي بذلك ويحمي ذلك ، فهو من أفضل الدساتير التي عرفتها مصر ، وفي عصور الجمهورية هو الأفضل على الإطلاق ، ولكنه دستور يحتاج إلى واقع يحميه ، ولذلك أتمنى أن تكون المعركة الجديدة ، وإن كانت تكتيكيا تهدف إلى إبطال العدوان على “نص” الدستور ، إلا أن هدفها الاستراتيجي ينبغي أن يكون صياغة “واقع” سياسي جديد في مصر يحمي الدستور من خلال انتزاع توازنات قوى جديدة ، توقف نزعات الاستبداد والديكتاتورية ، وتسمح للشعب باستعادة “سيادته” وتمنحه ثقافة وآليات وقدرات التغيير ، هذا هو التحدي .

يبقى الحديث عن الموقف من الاستفتاء المنتظر على تلك التغييرات الدستورية ، وقد انقسم الموقف الوطني المعارض ـ كالعادة ـ إلى قسمين ، قسم يرى المشاركة والتصويت بالرفض لمنع التزوير أو فضحه وحشد الناس للرفض تفعيلا للغضب الشعبي وإحياء لروح المقاومة واحتفاظا بفرصة ولو كانت صغيرة لإبطاله عبر الصندوق ، والقسم الآخر يرى المقاطعة التامة باعتبار أن المشاركة في التصويت نوع من الشرعنة للعملية وهي باطلة برمتها ولن تمنع التزوير .

بطبيعة الحال ، لكل موقف وجاهته وحججه ، وهي مسائل من الصعب حسمها في ظل العصبية الشديدة المخيمة في المجال العام في مصر ، ولكن الحد الأدنى من العقلانية الوطنية أن لا تكون مادة جديدة للانقسام الوطني للمعارضة ، وإلا فإن النظام يكون قد حقق بذلك نصرا مزدوجا ، تمرير التعديلات وتعميق أزمة المعارضة ، وإنما الحكمة تقتضي أن يحترم الجميع اختيار أسلوب المعارضة وخندقها ، وهذا جوهر الديمقراطية أيضا ، لأن مصادرة الخيار الآخر وتشويهه والطعن في شرف أصحابه هو موقف ضد الديمقراطية ، كما لا يخدم ـ بداهة ـ مصلحة الثورة أو الإصلاح .

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.