زلزال الأرض أم زلزال الكرامة الجريحة؟

0

أحمد بن بنور

إن المـآسي فـي حـياة الـناس تصنـع الـرجـال الأبـطـال والـفـواجع الـكـبـرى تـُـفـجـر عـبـقـرية الأمـم.

في تلك الرواية المدهـشة ” زوربا الإغريقي ” وفي لحظة حـبـلـى بـغــد آخـر، تـسـقـط الركائز، تـنهار الأحلام. إيــذانـا بـإفـلاس كـبــير. لـكـن البطـل يـصرخ مـقـهـقـها أمام رب العـمل: “يا للـخـراب الـجـمـيل” !

نعم، ذاك الخراب جميل. لأنه يـعـني استئناف البناء بهمة جديدة ودروس مستخلصة.

هـل مـن حـضن جـديـد يـُـدفــئ صـُـدورنا بـعـد هـذا الـدمـار المهول؟

أحمد بن بنور

في وضعـنا المغـربي، واأسـفاه! واحسرتاه! هذا الخراب، ما كان ولن يكون جميلا. لأن التـكـلفـة باهـظة. فالأمر لا يتعلق بإفـلاس مشروع ما. ولكن الأمر يتعلق بآلاف الأرواح بين راحلة، وأخرى معـطوبة، وأخـرى دامـية تحـت الخرائب !

نعم، هذا الخراب ما كان ولن يكون جميلا. الزلزال ليس شيئا آخر إلا القــُـبح. بيوت كأني بها أكواخ من هشيم. صخور وسط الطرقات كأنما تسد أبواب النجدة والأمل. حجارة متراكمة ومدببة كأني بها أنياب أفـاع مسددة لأعـيـن المنكوبـيـن. رجال ونساء يـبحثون عن زاوية ما، ليضعـوا فيها ما هربوه من أغراض متلاشية. الدور الباقـية، باقـية. لكنها مشقـوقة. فكيف العودة إليها وهي لم تعد عـُـش أمان؟

في الفـيس بـوك. ذاك الولد المشرق بـهـجة وتـألـقـا، حمزة محفوظ، يُـذكرنا مستعـيدا مقطعا من تلك الأنشودة البهية لناس الغـيوان، والتى انطبعـت في قـلوبنا بأحرف من نور. وها هي اليوم تبـعـث بأحرف من كبريت أزرق :

ما هموني غير ارجال اللي ضاعو

لحيوط إلى رابو كلها يبني دار

ما هموني غير الصبيان بردو وجاعو

والغرس إلى اسقط نوضو انغرسو أشجار

ما هموني غير ارجال اللي ضاعو

ما هموني غير ارجال اللي ضاعو

نـعـم، لا وألف لا للنحيب. لا لطم الخدود. لا لجلد الذات، بدعوى غضب الله ولا أعرف من تـُـرهات. لا ولا للاستعمال الإيديولوجي المغرض. لا مجال لأي من هذا، فالمجال كل المجال لغـرس الأشجار. أي نجدة المحبوسين بين الركام، وجبر الضرر وجبر الخواطر، وتطبيب الجرحى، وإيواء المشردين طعاما ولباسا وسـقـفا. وهـذا يتـطـلب تـجـنـيـدا يـقـفـز فـوق كـل الـعـقـبات، والارتـقـاء فـوق تـصفـية الحـسـابات.

ها هو مغربنا يـئـن اليوم لا جرحا راعـفا، ولكنه يئن وجعا ومخاضا. إنه يريد أن تكون هذه الفاجعة سبيلا للتحكم في زمام القرار. سبيلا لنفض القدرية الخنوع والانطلاق في مسلسل بناء وطن جديد، خارج الفساد والإفساد. خارج الاحتكار والإفـقـار. وطن بلا أكواخ مهترئة. ولا شبه دور آيلة للسقوط. وطن المدن المتمدنة بلا رُكام قصدير خانـق. وطـن يريد استثمارا يتجاوز هذه الواجهات البراقة بهجة للعيون وشتما للذكاء. وطن يطمح للاستثمار في الإنسان، تعليما وتطـبـيـبا وشغـلا وسكنا وعدالة. وطـن يريد مؤسسات الحق. كل الحق في التـنمـية والحق كل الحق في الـخـبـر. والحـق كل الحق في التعـبيـر، إشادة بالإرادات النزيهة وتـنديدا بالمسخ وأوساخ الدمامة.

كيف لا، وهاهـم آلاف الموتى يطرقون أبوابنا. فكيف ننام؟ ها هم يسـتـنطقـوننا: بالله كيف يتم دفننا بلا غسل ولا كفن ولا فـقـيه يـتـلو علـينا ما جاء في الصلاة الأخيرة، لآخـر عـشاء؟ ها هم عـشرات الآلاف من المنكوبين، لا يعرفون في أي واد يهـيـمون، وأي يـد يصافحون، وأي ملجإ يستر أسمال ما تـبـقـى لهـم مما هم به يـتـدثرون؟ ها هم آلاف الأطفال يسـتـنطـقـونـنا: “أيــن أمهاتـنا؟ أين أشـقـاءنـا؟ أيـن آبـاءنـا؟ وهـل مـن حـضن جـديـد يـُـدفــئ صـُـدورنا بـعـد هـذا الـدمـار المهول؟

حديث الأستاذ كريم التازي..

يقول الأستاذ كريم في تيـلكيـل: ” أمام نكبة طبـيـعـية ما، يجب الأخذ بعـيـن الاعـتبار، أن ظرفية الدعم المُـبرمج، تـتـطلـب وقـتا لـيس هو نفسه الوقت الذي تـقـتـضيه ظرفـية الـدعـم العـفوي”. لكن، ألا تـتـفـق معي حضرة الأستاذ، أنه في النكبات الكبرى، فإن الفارق الزماني يُـمحى بين المُـبـرمج والـتـلـقـائي؟ حتى لا تـتـبقى إلا إرادة النجدة عبر كل الأبـواب. أو ليس الرهان كل الرهان، إنـقـاذ أرواح تـئـن تـحـت الأنـقـاض؟

يشير الأستاذ كريم أن هناك قـُـرى في أعالي الجبال، وهناك طرق مسدودة، وأخرى لا وجـود لها!  لكن، بالله كيف لا نـصـرخ: “أين الطائرات الحوامات؟ هل هي مجرد ديكور؟ أم أنها خـصيصا في خـدمة الـتحـركات الـمكـوكـيـة لـقـمع انـتــفــاضـات الــيــأس والــجــوع؟”.

كيف لا نشعر بالغضب؟ لكن، لا للغـضب الغرائزي الذي يـطـفـئ فـوانـيس الحـصافـة. وإذا، فنعم للغـضـب العـادل. الغضب الذي يجهر في آذاننا بحـقـنا في الكرامة. أو لسنا نـعـيش تراجـيـديـا بامـتـيـاز؟ فكيف تـتجـدد المـآسي فـوق رؤوسنا ونحن مـتـفـرجون؟ كيف نلعـب نفـس الـدور. دور السمـكة الـحـمـقاء، تـتـلـقـفـها دوما وأبدا نـفـس الصنارة؟ هل نحن فـئـران أغـبـيـاء حـتى نسـقـط دوما وأبدا فـي نـفـس المصيدة؟ هل كنا عـصافــيـر بـلـيـدة يـلـوي عــنــقـهـا دومـا وأبــدا نــفــس الـفـخ؟

إن الشعـوب التي لا تـتعـلم من تجاربها، هي شعـوب تعـيش أبد الدهـر في انتـظار من يأتي من خلف البحار. لا ليستولي على مستقـبلها وخـيـراتـها وكـفـى بل، لـيُـجـند أولادهـا عــبـيـدا في خدمته وبنـاتـها جــواري تـُـباع فـي أسـواق النـخاسـة، لإبـهـار مـجـالس الـقصـف والـطـرب.

لا أعرف إذا كانت هناك أمم خاملة، ولكني أعرف أن شر الأمم لَهِي تلك التي يصفعها القدر حتى تـتـزلـزل الأرض تحت أقدامها، وتظل مع ذلك هاجعة لا تلبت أن تعـود لتغـط في نومها وأحلامها المطرزة بخزعـبلات الأسلاف الغابرة.

أروع الأمم، تلك التي يصفعها هول ما، فـتهـب عن بكرة أبـيـها، لـتـنـتـشـل من ذاتها ما تـُعـيد به بناء ذاتها، حتى تكون أنـفـذ بـصـيـرة وأقوى صلابة في وجه ما يسمي بالقدر البـغـيض، أو الحظ العاثـر.

ولكن ماذا عن مغـربنا؟ من ينكر أننا أمة الـكـرامة. ويـشهد الله، أن هذه الكرامة، هي الحبل القوي اللامرئي الذي يشدني للوطن. ما أكثر ما لمست هذه العـزة في أياد صافحتها. وما أكثر ما الـتـقـيـتـها في عـيون، مهما كان خصاصها، فالخـفـر ترفـُّــعا يبقى دوما وأبدا ديـنـهـا ومـلاذهـا.

من ينكر أننا أمة الـكـرامة!

رأيت الشهامة تصدح مواويل!

من أعماق هذا الجرح النازف، تأملوا معي هـذا الـفـيـديـو، حيث هؤلاء الرجال، بجلابـيـب بيضاء صقيلة كأنما تحـديـا لـلـيـل الـحـداد. هل كانوا يغـنون؟ أم كانوا يـبكون؟ لكن يا للغـباء! هل في الفواجع العـظـمى من حدود بين الـغـنـاء شجوا والبكاء دمعا؟ لـذا فمواويل هؤلاء الرجال كانت تمس كل الأوتار فـيـنا. كانوا يصدحون بلغة أمازيـغـية حـيـنا، عـربـيـة حينا آخر. كأنما ليقولون: في المحن الكبرى فإن الـنـُّـبل مـنـتفـضا، لا يعبر عنه إلا بلغات تعانـقـت لتصبح تـنهـيـدة جرح واحد. فالألم يصهر القلوب والشجى يوحد الحروف والأنفاس.

أتحدى مغـربـيـا أصيـلا يـستمع لهـذه المواويل ولا يـكـفـكـف دمعة تـنحدر متدحرجة من أعماق الروح.

نــعــم، الأوطان العظيمة تولد من رحم المصائب الكبرى، هل المغرب بعد الاستعمار هو نفسه قبل تلك العاصفة المدمرة؟

ها هو مغربنا يـئـن اليوم لا جرحا راعـفا، ولكنه يئن وجعا ومخاضا. إنه يريد أن تكون هذه الفاجعة سبيلا للتحكم في زمام القرار. سبيلا لنفض القدرية الخنوع والانطلاق في مسلسل بناء وطن جديد، خارج الفساد والإفساد. خارج الاحتكار والإفـقـار. وطن بلا أكواخ مهترئة. ولا شبه دور آيلة للسقوط. وطن المدن المتمدنة بلا رُكام قصدير خانـق. وطـن يريد استثمارا يتجاوز هذه الواجهات البراقة بهجة للعيون وشتما للذكاء. وطن يطمح للاستثمار في الإنسان، تعليما وتطـبـيـبا وشغـلا وسكنا وعدالة. وطـن يريد مؤسسات الحق. كل الحق في التـنمـية والحق كل الحق في الـخـبـر. والحـق كل الحق في التعـبيـر، إشادة بالإرادات النزيهة وتـنديدا بالمسخ وأوساخ الدمامة.

فماذا إذا، لو تجندتم يا أهل الحل والعـقـد للبناء مع هذا الإنسان؟ أو ليس هنا يكمن الربح الحلال والمجد رقـيا ورفـعـة؟ “ومن لك بالحر يحـفـظ الـيـدا”؟

مـسـك أم مرارة الـخـتـام!

خلال تـغـطـية تـلـفـزيـونـية بـمراكـش، رأيت فـتـاة لا أعـتـقـد أنها تجاوزت السابعة عـشرة. خرجت لتوها من مركز تحاقـن الدم، لتجد نفسها وجها لوجه أمام مايكروفون القـناة الأمريكية السي آن آن. إنها تـقـول وبإنـجلـيـزية مـشرقـة وابـتسامة أكـثـر إشـراقـا: “ليس لدي ما أعـطـيه غـيـر الـدم وها أنا أعـطـيته”. لو كنت حاضرا ساعـتها، لـكـنت أشـد علـى يـدها بـحـرارة لأقـول: ” كلا ابـنـتـي، وأنت أُمَّ الحُـسْـن، لقد أعـطـيـت بجـانب دمـك ما هـو الأغــنـى والأشــرف. لــقــد أعــطـيـت ابـتـسامـتـك الــبـريـئـة الـتـي تــُـضيء وطـــنا وتـُــلهــم أمــــة”.

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.