شعرية اللون وذاكرة المكان في لوحات الفنانة فاطمة موتيح.. التجربة الملغزة

0

ليلى الدردوري*

الناقدة والأديبة والشاعرة ليلى الدردوري

تنبع قيمة الفنانة (فاطمة موتيح) ضمن الحركة التشكيلية المحلية والوطنية والعربية من كونها رائدة اتجاه تشكيلي متفرد بصمته بنوع من الإضافة النوعية والفرادة والتميز، بل وفي كونها رسامة توقع تجربتها داخل حركة ازدحمت بالمعطيات الأصيلة وتفاصيل الحياة، وفي إطار ذلك ترسو الفنانة بين الزجل وفصاحة القصيد ولغة موليير، وترفع مرساتها لعنصر التشكيل باللون، هو مؤشر دال يشي بأن هذه الفنانة العصامية ابتدأت رحلتها مع الفن عن وعي بطبيعة عملها عبر رؤية تشكيلية ترتكز على جوهر فطري وآخر ثقافي إبداعي، ينهض على فكرة التعبير القائم على (حوارية الفن للفن ) حيث تناغم اللون والكلمة في ملتقى أصالة الموروث والتاريخي النابع من الارتباط الدائم بأصول الأرض التي تنتمي إليها.

وفي ذلك تنجح في رسم المنقوش في ذاكرة المكان من دون انتماء إلى مدرسة معينة، سوى مدرسة الحياة المغربية بأعرافها، وعالم الأرض الدوكالية، حيث انتعاش جماليات سحر ألوان الطبيعة..

من هنا تغوص تجربتها في الفن التشكيلي بانفتاح على مجمل مدارس الفن الأصيل، لكن بتجربة رهانها تحويل الواقعي إلى متخيل، عبر الصورة المتبوعة توا بالزجل، كفَنّ لغوي في قران شعوري رفيع لا فصال فيه بين المنطوق/ والمنظور، بين اللون/ والكلمة؛ فتجربة الزجل فن منبثق من اللوحة، وتحريك لها عبر عنصر السرد الإيقاعي، كمكون قد يتعلق بأحداث واقعية ذات بعد جماعي تارة، أو ذات بعد بيوغرافي يحمل الفنانة إلى زمن الطفولة الجميل، الذي ملاها بالتوجس والبراءة، وغمرها بالترقب في محاجر الفن، بدءاً من اكتشافها جماليات البادية وعذرية الطبيعة، وصمت الرمل وعبير الربوة ومفازة الصحراء، وجزر البحر ومده، هناك تنهال عليها أنوار الإلهام، عبر حلم هو أشد الأحلام وقعا في الفن، وعبر أحداث الحياة..

الفنانة التشكيلية فاطمة موتيح

ومن هنا  أخلصت لهذا الحلم، ولتخلص له، أسعفتها الريشة/ واللغة الشعرية المسحورة بالألوان هدفا في تحقيقه بأمانة داخلية، تعكس المدار الذي يطوق عالم البسطاء، والذي أعدت له العدة لرسمهم كأبطال في الطبيعة، وفي الحياة بكل محبة، وانشداد وتوهج ذاتي، وانبهار الرغبة، وشوقها إلى مشاركتهم التعبير لكن بالرسم. وهي الشاعرة والرسامة المرهفة الصاغية إلى دواخل فلاحي وبشر البادية نساءً وشيوخا وأطفالا، بأحلامهم، وهي تتماوج في حفافي الغيوم، وحمرة شقائق النعمان، وخيوط الفجر الذهبية، وهي أحلام لم تكن تتعدى الرغبة في حضور الخبز الشريف، والصبر على الحياة وعلى القدرية.

في هذا الإطار، توقع فاطمة موتيح هويتها الفنية، التي جوهرها الأساسي التعبير عن الحياة وذاكرتها بوعي يرتكز إلى رؤيا إبداعية لا حواجز فيها، بين الفرشاة/ والإبداعي الشعري، وهي رؤية تصوغها في لوحاتها بمسوغ يحمل الكثير من رموز حياتها بمعناها المتسع، تلك التي انعكست على صفحة روحها، ووعتها ذاكرتها بالأشكال، فاحتفظت بها مخيلتها لتعيد تركيبها في صيغة زجلية، كدليلٍ على تيقظ فكرة التعبير عن الحياة المحلية، في انعطاف نسبي عن اتجاه فني ازدهر كتيار في الخمسينيات في الحركة الفنية العربية، لكن الفنانة طوعته في أمهال قادتها، إلى منح استراحة لعنصر اللون لصالح الرسم بالكلمة، كلَوْن آخر يقتحم اللوحة، ويفتحها على مصراعيها، ليكون واحدا من شهودها..

هكذا جاءت لوحاتها عن البادية وفاءً حقيقيا، لقضية التعبير الفني الذي تبحث عنه؛ من هنا تقترب القيمة الإبداعية في لوحات فاطمة، من تجربة الرسام العراقي التشكيلي(ربيع شوكت)، من حيث الأشكال التي سحبت من أعماق الصبا والطفولة، لتطفو على سطح التجربة، ومنها الأيام الخوالي، من طفولة قروية ووجودية في(الأهوار)، أولئك الذين روضتهم الحياة اليومية الثقيلة.

وإذا كانت الانطلاقة الفنية فطرية موسوعة بالعامل النفسي والوجودي، عند فاطمة موتيح، والقائم على أساس العلاقات مع الموجودات والموضوعات الاجتماعية والطقوسية، بمادة هي أقرب إلى الحياة في واقعيتها، بانتقاء الألوان بشكل حسي وفطري للملائمة، بين ما تود تجسيده، وهو دليل على تشكيل العنصر الجمالي بمركبات لونية، فإن عملها يكتسي صبغة أخرى مزودة برواء الكلمة، في حس إيقاعي منسجم مع نفسه وطبعه وتكوينه !؟ حيث المسافات تغور، وتصبح عميقة العمق، في المكان، عبر وظيفية الحوار اللغوي، بشكل مقنع وممتع ومثير، وكأن عنصر اللون والكلمة مصطلح مشترك في نقل المنظور وخلقه؛ فللزجل استخدامات متوازية مع حدود التشكيل، بل وقد يغدو عنصرا بارزا في عملية استلهام الواقع وبث صوره. وهي مسألة دالة على امتلاك الفنانة لناصية التشكيل باللون واللغة؛ فحين تكتمل اللوحة، تتفتح الكلمة الرقراقة على الألوان، وكأنها تكسبها طمأنينة في رحلة تجتاز فيها الفنانة دروب الزجل الوعرة، وجّهتها حوارية حساسة وخاشعة، حافلة بسرية البوح المسموع، والمُفعم بأسرار الألم والحزن والفرح والشوق والأمل، فتتوحد اللغة مع الظلال بوسيطة المرسوم، بدلالاته المادية والروحية والفنية التراثية.

تقول في لوحة (رقصة الكدرة)، في توازٍ مع نصها الزجلي (الكدرة والبشارة) مثلا:

عوايــد غريبـــة على الحضــار

نغمــة حسانيـــة تدفــي لوكـــار

على هجاها يتكيف الطبل ولوثار

وتارة تولد اللوحة من ثنايا إسقاط الحواجز، بين الماضي والحاضر، لتفسح المجال للتراكمات الزمنية بمفهومها التاريخي كما في لوحتها (الحماية). وكأن السفر المسحور في تخوم الكلمة الشاعرة، يؤجج في أعماقها القيم الجمالية، ويعيد لها القدرة على رؤية المرسوم مجددا بروعته وفنيته ووضوحه وقيمته الحقيقية. وهو جهد إبداعي مضاعف واحتراق أصيل في أثافي الفن، وهو أمر ليس بالهين على فنانة تريد أن تجعل من فن التشكيل شهادة على الحياة.

*أديبة وشاعرة وناقدة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.