تعلق بها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب.. رحيل الشاعرة العراقية لميعة عمارة

0

غادرت إلى دار البقاء الساحةَ الشعرية والأدبية العراقية والعربية، الشاعرةُ لميعة عباس عمارة، عن سن تناهز 92 سنة، كتبت فيها قصائد متمردة على الصورة النمطية للمرأة العراقية والعربية عموما، وكانت الشاعرة التي ألهمت عددا من الشعراء، على رأسهم الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، الذي نظم فيها قصائد غزل تبرز إلى أي حد تعلق بها، في علاقة شعرية وإنسانية، أثارت جدلا كبيرا وكثيرا.

وقد نعى الشاعرة رحيلها ابنُها زكي على صفحته في فيسبوك قائلا: “ببالغ الأسف والأسى أنبئكم بوفاة والدتي الشاعرة لميعة عباس عمارة.. خسارة لكلّ من عرفها من العراق وكل الدول العربية والعالم… الذين أحبّتهم وأحبُّوها. ستبقى ذكراها في وجدان كل من عرفها شخصيا، أو عبر أشعارها ودراساتها الكثيرة. هي التي بذرت فينا مخافة الله، ومحبة الناس، واحترام كلّ خلقه”.

وأضاف نجل الشاعرة الراحلة لميعة عباس عمارة، في رسالة نعيه، أنّ والدته الشاعرة قد عانت في الأشهر الأخيرة، ولم تكن تأكل أو تشرب أي شيء، ولكن ظلّت في كامل قواها العقلية، وكانت تستقبل من يأتي إليها من الناس بابتسامة جميلة”.

مسيرة شاعرة متمردة على نمطية المرأة!

عُرفت لميعة عمارة، المولودة في بغداد عام 1929، بجرأة في كتابة الشعر، جعلتها من أهم الشخصيات الشعرية النسوية، اللواتي كتبن عن المرأة والحب والغزل.

ولدت الشاعرة الراحلة لعائلة صابئية مندائية عريقة معروفة في منطقة الكريمات ببغداد. كان عمها صائغ الفضة المعروف، زهرون عمارة، وابن خالها الشاعر العراقي البارز الراحل عبد الرزاق عبد الواحد.

الشاعرة لميعة عباس عمارة

نالت لقبها نسبة إلى مكان ولادة والدها في مدينة العمارة جنوبي العراق، حيث بدأت كتابة الشعر مبكرا وهي في ربيعها الـ12، وكانت ترسل قصائدها إلى الشاعر اللبناني المهجري، إيليا أبو ماضي، الذي كان صديقا لوالدها.

نشرت أول قصيدة لها في أربعينيات القرن الماضي، وكانت حينها في الرابعة عشر من عمرها. وبمجرد أن قرأ إيليا أبو ماضي قصيدتها كتب قائلا “إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق”. وقد كانت وقتئذ ترسل قصائدها الأولى إلى الشاعر المهجري أبي ماضي صديق والدها، وكان إيليا ماضي يثني على موهبتها ونشر لها  أول قصيدة في مجلّته (السمير) سنة 1944، وهي ما زالت بعدُ بنت أربعة عشر ربيعًا.

الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة مع المطربة اللبنانية السيدة فيروز (أرشيف الشاعرة)

من بين قصائدها الشهيرة “وحيدة على شواطئ الاطلسي”:

من غرفتي أحكي عن الحب أنا

وعن هوى لم ألمسِ

كفيلسوف يصف الخمر التي لم يحتسِ.

أخذت لميعة الثانوية العامة في بغداد، ودرست في دار المعلمين العالية – فرع اللغة العربية حيث حصلت على الإجازة سنة 1950، ثُمّ تخرجت في هذه الدار سنة 1955. وفي هذه الدار التي كانت معقل آباء الحداثة الشعرية الأولى، وشهدت ميلاد حركة الشعر الحر، التقت لميعة شعراء العراق البارزين، بمن فيهم بدر شاكر السياب الذي تعرّفت عليه، بل إنّ بدرًا تعلق بها وكتب عنها أشهر قصائده؛ كـ(أنشودة المطر) التي مطلعها: “عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر”.

الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة مع الشاعر السوري الكبير نزار قباني

مُلهمة السّياب ومعشوقته !

“ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وأمطار”، هو مطلع قصيدة للشاعر العراقي الراحل، بدر شاكر السياب، يتغزل فيها بالشاعرة العراقية الكبيرة لميعة عباس عمارة التي توفيت، الجمعة 18 يونيو، في مهجرها الأمريكي بمدينة سانتييغو على الساحل الغربي للولايات المتحدة، بعد أن تدهورت حالتها الصحية.

ويقول السياب في موضع شِعري آخر، وفي واحدة من أشهر القصائد التي يعتقد أنه تغنى فيها بلميعة: “أحبيني لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني” !

وقد تميزت لميعة، التي كانت زميلة السياب في دار المعلمين العالية- كلية الآداب ببغداد، بالجمال والروح المرحة، مما جعل الشاعر البصري يقع في حبها.

وقد بقيت لميعة تذكر بدر شاكر السياب بخير، وتُعلي من قدره. وفي أحد الحوارات، قالـت: “لقد كان بدر إنسانا عظيما، وأنا آسفة لأنني لم أستطع أن ألبّي طلبه بالارتباط، لأنني كنت حريصة لأن أبقى شخصية مستقلة، فارتباط شاعر بشاعرة يلغيها”.

ظلّ اسم لميعة مقترناً ببدر، وكان مثل هذا الأمر يطاردها ويضايقها كشبح لأنّه يلغيها. ولكن في المقابل، ظلّتْ تعترف بهذه العلاقة التي لم تكن عادية، بل كانت قصة حُبّ وليد، ومصدر إلهام حقيقي بالنسبة إلى السياب الذي كان “يبحث عن القلب الذي يخفق بحبه، دون أن يجده” على حدّ تعبير الكاتب إحسان عباس.

تحكي لميعة إلى الروائية العراقية إنعام كجه جي: “من الأكيد أنني كنت أحبّه، وقد كتبت له شعرا، وتأثرت كثيرا بصداقتنا التي لم تكن أكثر من علاقة بريئة ومحلقة ومبدعة. وهي قد كانت فترة غنية جدا في حياة بدر، توقفت تقريبا فيها عن كتابة الشعر، طيلة الفترة التي عرفته فيها، وكنت مكتفية بدور الملهم والمستمع والناقد والرفيق والصديق. كنت الأم والحبيبة، فكان إنتاجي قليلا وإنتاجه غزيرا. وكنت سعيدة بصداقته وراضية. لكنه كان شكوكا لا يثق في النساء ولم يصدق أنني أبادله مشاعره. وأنا لست مطالبة بأن أقسم له بالأيمان الغليظة أني أحبه. فقد كان لي غروري وكبريائي وثقتي بنفسي والدلال المعروف عن العراقية، المرأة التي يلهث وراءها الرجل فلا تبدي مكنون ضمير وتبقى المترفعة. ولعله تصور أنني أحب الشاعر فيه فحسب، وأنا أحببته كإنسان”.

تعد لميعة إحدى أهم الشاعرات العراقيات اللواتي لعبن دورا محوريا ضمن حركة الحداثة في الشعر العراقي والعربي عموما، إلى جانب شعراء من أمثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، في خمسينيات القرن الماضي.

يقول الكاتب العراقي عقيل عباس إن الشاعرة لميعة عباس عمارة عملت “انقلابا” هائلا في الشعر، لأنها ركزت على مفهوم الحرية وكانت صوتا للمرأة.

ويضيف عباس في أحد تصريحاته الصحفية: “عند المقارنة بين لميعة ونازك الملائكة، تعد الأخيرة هي الرائدة في مجال الشعر الحر، لكن في ما يتعلق بقضايا المرأة لميعة هي الأهم والأعمق شعريا”.

من قصائدها المعروفة قصيدة “أنا عراقية”، تقول فيها إنها كتبتها عندما حاول أحد الشعراء مغازلتها في مهرجان شعري في العراق. هذا مطلع القصيدة:

“أتدخنين؟  لا. أتشربين؟ لا. أترقصين؟ لا. ما أنتِ جمع من الـ لا؟ فقالت أنا عراقية”.

خلال مسيرتها الأدبية الطويلة، صدرت لها عدة مجموعات شعرية، أبرزها “الزاوية الخالية” و”عودة الربيع” و”أغاني عشتار” في السيتينيات، و”يسمونه الحب” عام 1972 و”لو أنبأني العراف” عام 1980.

لم تقتصر كتابات الراحلة لميعة عباس عمارة التي هاجرت من العراق فينهاية سبعينيات القرن الماضي واستقرت بولاية كاليفورنيا حتى مماتها، على الشعر الحر الفصيح، بل كانت لديها أيضا قصائد باللهجة العامية لاقت صدى واسعا في العراق لطرافتها وعمقها.

من بين هذه القصائد الشعبية قصيدة “يا حلو” وهذا مطلعها:

يا حلو يا موصه بالفاعل تكسره

وترفع المجرور والمنصوب ما تقبل غلط

اغلط بكيفك اتدلل

عودت سمعي على لحنك فقط

تمكنت لميعة عباس عمارة من كسر “النمطية المجتمعية” والتقاليد المتعلقة بصورة المرأة، كما يؤكد الكاتب عقيل عباس، ويضيف “كانت جريئة جدا في تناول المرأة كذات، لأنها تتحدث عن الرغبة والمشاعر في مجتمع ذكوري طغى حتى في الشعر”.

مثلت عمارة “تحديا حقيقيا للثقافة الذكورية” في كتاباتها، وفقا لعباس.

يقال إن هناك علاقة حب نشأت بين لميعة وبدر شاكر السياب، وظهر ذلك جليا من خلال القصائد المتبادلة التي كتبها الشاعران بعضهما للآخر.

تميزت لميعة، التي كانت زميلة السياب في دار المعلمين العالية- كلية الآداب ببغداد، بالجمال والروح المرحة مما جعل الشاعر البصري يقع في حبها.

يؤكد عباس أن هذه العلاقة كانت موجودة وكان لها تأثير واضح على كتاباتهما.

الشاعرة العراقة لميعة عباس عمارة في واحدة من أحدث صورها

من أشهر القصائد التي يعتقد أن السياب تغنى فيها بلميعة هي قصيدة يقول فيها: “أحبيني لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني”.

في المقابل، تؤكد الشاعرة في إحدى مقابلاتها الصحفية أنها بالفعل أحبت السياب، وأنها كتبت له شعرا، وتأثرت كثيرا بصداقته التي لم تكن أكثر من علاقة بريئة ومحلقة ومبدعة”.

نعاها الرئيس العراقي برهم صالح في تغريدة الجمعة قال فيها “نودع الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة، في منفاها، ونودع معها أكثر من خمسة عقود من صناعة الجمال”.

وأضاف صالح أن “الراحلة زرعت ذاكرتنا قصائد وإبداع أدبي ومواقف وطنية، حيث شكلت عمارة علامة فارقة في الثقافة العراقية، في العامية والفصحى”.

ووصف رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي رحيلها بـ”المؤلم” وقال إنها “تركت إسهاما لا ينسى في الثقافة العراقية ستذكره الأجيال المتعاقبة بفخر واعتزاز وتبجيل”.

الناس/عن عدة مصادر

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.