المقاطعة.. الرأسمال في مأزق السلطة
عصام واعيس
ترسم سياسة تخدم اقتصادا بعينه، وتبني اقتصادا يخدم سياسة بعينها، يعضد الرأسمال السياسة العمومية المنشودة، وتفسح القرارات السياسية المجال للرأسمال لينمو ويربو.
تنشر السياسة عروقها في جسد الرأسمال، ويسكب الرأسمال دماءه فيها. وها هو “فرانكشتاين” مغربي يتحرك. ما أجمل صنائع النظام! ثم تحدث واقعة تحدث خللا في هذه البنية المزيجة.
واقعة تجعل الرأسمال يخسر من السياسة التي يخدمها، فيما السياسة تراكم الأرباح من ورائه. بنود الاتفاق لم تتضمن تأمينا على مخاطر من هذا القبيل؟ ماذا لو قاطع المستهلك/ المواطن منتجات الرأسمال الذي يشارك في صناعة سياسة لا يرضاها؟ ماذا لو اقترنت العلامات التجارية للرأسمال بمفاهيم ودلالات قاسية على أسهم الشركات وسمعتها من مثل “الاستبداد” و”التحكم” و”الريع” و”استنزاف الثروة الوطنية” و”الاغتناء غير المشروع” و”الزبونية الراقية” وغيرها؟
التجارب المقارنة في مجال المقاطعة تقول إن ارتباط أي فاعل اقتصادي بمعاني مماثلة يهدد بفناء علامته في السوق. لذا تسارع الشركات للتفاعل مع حملات المقاطعة بكل الطرق، إلا تلك التي رأيناها في حالة بعض الشركات المعنية بالمقاطعة في المغرب. لنقدم عبارات عامة لمضامين البيانات الممكن أن تصدر إزاء حملات المقاطعة على اختلاف الأسباب والدواعي، ثم بعد ذلك نقدم اقتراحات تخص الحالة المغربية.
في حالات المقاطعة عالميا، قد نجد صيغ رد من قبيل “إن الشركة (كذا) تعلن تفهمها العميق للأسباب الوجيهة القائمة وراء قرارات بعض زبنائها عدم اقتناء منتجاتها، وتؤكد أنها تأخذ انتقاداتهم على محمل الجد، وقد عقدت اجتماعات متوالية بخصوصها تم خلالها عرض وجهة نظرهم كمستهلكين، وستصدر قريبا قرارات تستجيب بالقدر الممكن لمطالب زبنائها المتفهمة وتعكس القيم التي تؤمن بها الشركة والتي أسست لها بمعية زبنائها في مسيرة امتدت لكذا من السنين…”، أو “إن شركة (كذا) وهي تتابع الحملة الأخيرة ذات الصلة ببعض منتجاتها، تود أن تؤكد أن قامت بفسخ عقد (كذا) مع المؤسسة الفلانية استجابة لمطالب زبنائها الأوفياء،
كما تؤكد أنها تعمل على تغيير سياستها بما ينسجم مع تطلعات المستهلك المبنية على قيمنا ومبادئنا المشتركة”. هكذا تلجأ الشركات إلى ردود تحاور فيها زبناءها بهدوء وضبط للأعصاب وتفهم لأغرب المطالب التي يمكن أن يطرحها، أو تقديم توضحيات وشروحات أو مناداة وسائل إعلام معروفة بتجردها واستقلاليتها لدى الرأي العام لتنفي عبرها الشائعات التي تستهدفها في حال كانت الأمر كذلك، لأنها تعمل في مناخ اقتصادي شديد التنافسية وتعلم أن الدخول في لجاج ومزايدات مع المستهلك، فكرة قاتلة.
طيب، كيف يمكن أن تتفاعل الشركات المعنية بالأمر في المغرب مع مقاطعة منتجاتها في ظل الإطار الذي بسطته أعلاه؟ في أمثل سيناريو، عليها أن تعلن فك الارتباط مع السلطة،
مادام وجودها في جانبها يجعلها حاليا تخسر على الوجهتين (لا السلطة تصد عنها تذمر المستهلك، ولا المستهلك يسقط عنها شبهة الاغتناء بالسلطة)، كما يجعلها معرضة لمثل هذه الحملات مستقبلا ما استمرت رموزها قريبة من بيت القرار. في سيناريو أقل تفاؤلا، عليها أن تعلن مراجعة أسعارها مع الحفاظ على الجودة ذاتها، مع الانخراط في حملات رعاية مكثفة ومبادرات دعم لفائدة الفئات المهمشة والفقيرة، ودون تعليق أي يافطة رسمية أو حزبية عليها. في أسوأ سيناريو (القائم حاليا للأسف)،
قد تختار الدخول في معركة غير منطقية مع شعب المقاطعين. هذا الشعب الذي لديه بدائل أخرى، ليست بلا أخطاء، لكنها غير منخرطة بالقوة ذاتها في خدمة المخزن. هذا السيناريو في الحقيقة قد يزداد سوءا في حال حاولت السلطة فرض “تضامن قسري” على باقي الشركات التي لم تتعرض منتجاتها للمقاطعة، لاستنزاف كل مقاطع، وهو أمر على غرابته، وارد جدا، وسيئ جدا، وأحمق جدا، ومجنون جدا ورهيب جدا.
نأمل أن يرى صناع “فرانكشتاين” في المقاطعة تعبيرا عن تظلم من واقع اقتصادي وسياسي “غير منصف”، أكثر منه تحديا سياسيا من العدالة والتنمية لإجهاض أي انتخابات سابقة لأوانها.. نأمل بعض التعقل وإلا سينتهي الأمر بتحويل الشعب بأكمله إلى صفوف المصباح، في أكبر خدمة مجانية للحزب في التاريخ.
عن “أخبار اليوم”