الموعد المتأخر مع الملك المغربي*

0

ناصر جابي**

يكون الرئيس هواري بومدين، قد تلقى قبل وفاته بشهور رسالة سرية من الملك الحسن الثاني، تقترح عليه اللقاء في عاصمة أوروبية، قد تكون مدريد. هذا ما أكده الكثير من الشخصيات القريبة من الرئيس بومدين بعد وفاته. ما أخاف بومدين حسب هذه المصادر، ما قاله المبعوث السري باسم الملك المغربي: قل لبومدين إننا إن لم نلتق هذه المرة فلن نلتقي أبدا. وهو ما يكون قد أخاف بومدين ولم يفهمه في حينه، حسب محيطه القريب، رغم أن الرجل كان بعيدا كل البعد عن التفكير في المرض والموت، كما حصل له بسرعة بعد ذلك.

خطاب العاهل المغربي، محمد السادس الأخير، الذي ألقاه الأسبوع الماضي بمناسبة الذكرى 45 للمسيرة الخضراء، والذي طالب فيه بفتح حوار «مباشر وصريح» مع الجزائر، ذكرني بهذه القصة المعروفة بين والده والرئيس الجزائري هواري بومدين. فلماذا تأخر الملك المغربي في توجيه هذا النوع من الخطاب إلى الجزائر، وترك الأمر إلى هذه السنة التي تعرف وضعا سياسيا متميزا على الأقل من ناحيتين. فالانتخابات الرئاسية التي ستنظم في الربيع المقبل، كما هو مقرر لها، لن تكون بكل تأكيد سنة اتخاذ قرارات حاسمة في مثل هذا الشأن الدولي بكل ملابساته. الشيء نفسه بالنسبة للوضع الصحي للرئيس بوتفليقة، الذي لن يسمح له بمباشرة هذا الملف الثقيل المتعلق بالعلاقات المغربية الجزائرية، التي يعرفها جيدا.

فقد كان بوتفليقة، ابن مدينة وجدة المغربية، وزير خارجية عندما اندلعت أزمة الصحراء، فهو الذي فاوض باسم الجزائر المغاربة والإسبان والموريتانيين على أدق تفاصيل الملف الصحراوي لإيجاد حل سياسي، قبل تدخل الحسن الثاني وإعلانه المسيرة الخضراء، التي وضعت الجميع امام أمر واقع جديد.

خطاب، لم يتعود عليه الملك المغربي الشاب وهو يتحدث عن الجزائر، فقد تميزت خطبه السابقة بأسلوب مغاير. يصفه الإعلام الجزائري وحتى المسؤولون ـ بغير الودي وغير المقبول ـ من طرف ملك دولة جارة تربطها بالجزائر العديد من العلاقات، وصلت لحد إطلاق هذا الوصف: شعب واحد في بلدين، الذي أصبح متداولا بين النخب الثقافية والعلمية في الجزائر وهي تتكلم عن العلاقات بين الجزائر والمغرب.

هذا في ما يخص توقيت الخطاب الذي يمكن ربطه كذلك بما يحصل في منطقة الخليج العربي، التي حاول الارتباط بها الملك المغربي كبديل في بعض الأحيان عن محيطه المغاربي الطبيعي، بعد استفحال الأزمة مع الجزائر ودخول مشروع البناء المغاربي في النفق. فالأزمة التي تسبب فيها الحليف السعودي بإعلان الحصار على قطر، والحرب ضد الشعب اليمني وأخيرا تداعيات مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بهذا الشكل الهمجي، كلها شروط تكون قد فرضت على الملك المغربي تصويب بوصلته نحو فضاء المغرب الطبيعي، الذي يبقى رغم كل شيء أكثر استقرارا مقارنة بأمواج الخليج الهائجة. توجه تسجله الدبلوماسية المغربية بعد نجاح محاولة العودة إلى إفريقيا، التي اتخذت منها المغرب موقفا سلبيا، بعد اعتراف العديد من دول القارة بالجمهورية الصحراوية. فقد قبل المغرب أخيرا بالجلوس إلى الطاولة نفسها وداخل المنظمة القارية نفسها بعد مقاطعة لسنوات طويلة.

نفس أكثر عقلانية وبراغماتية عادت اليها الدبلوماسية المغربية إذن، قد تكون هي نفسها التي يمكن تلمسها وراء الخطاب الأخير للعاهل المغربي، وهو يتوجه للجزائر، خاصة أن ما جاء في خطاب الملك هو نفس ما كان ينادي به الطرف الجزائري منذ سنوات، رغم وجود أولويات مختلفة لدى كل طرف في تقديم الملفات. فالطرف المغربي أكيد سيطرح كأولوية مسألة فتح الحدود البرية المغلقة من طرف الجزائر بعد أزمة 1994 (هجوم مراكش الذي اتهمت به المخابرات الجزائرية) التي افتعلتها بعض مراكز القوى داخل النظام المغربي، لتعترف لاحقا بعدم صحة المعلومات التي بنيت عليها. في حين قد يطرح الطرف الجزائري مسألة المخدرات التي يتهم المغرب بالتساهل في تمريرها داخل التراب الجزائري. وقضايا أخرى غير معبر عنها بشكل دقيق. لكنها تبقى حاضرة كخلفيه لدى المفاوض الجزائري.

ولكن ماذا عن قضية الصحراء التي تبقى الملف الأكثر حضورا بين الطرفين؟ البراغماتية نفسها تفرض على الجميع الاعتراف بأن الحل يكمن في الفصل بين الملفات المطروحة بين البلدين، كتلك القابلة للحل على المدى القصير مثل، فتح الحدود البرية التي يكفي فيها قرار من الجزائر، وملف الصحراء الذي يبدو أكثر تعقيدا ويملك بعدا دوليا، لا يمكن القفز عليه، وقد يتطلب العودة إلى النهج نفسه الذي اعتمدته قيادات البلدين في بداية الثمانينيات، عندما التقى الرئيس الشاذلي بن جديد بالحسن الثاني على الحدود (1983) لقاء كوّن انطلاقة جديدة لتطبيع العلاقات بين البلدين، بدون ربطها بمسار الملف الصحراوي. وهي الرؤية البراغماتية نفسها التي سمحت لقيادات المنطقة المغاربية الانطلاق بوضع أسس هذا البناء المؤسساتي، سنوات بعد هذا اللقاء على الحدود، بدون انتظار حل مسألة الصحراء.

رؤية براغماتية كانت تُعول على النجاح في مسار التطبيع بين البلدين والنخب السياسية الحاكمة المتوجسة من بعضها بعضا، بعد أن زاد البُعد بينها في تعميق الخلافات الناتجة عن عملية تنشئتها السياسية المختلفة أصلا. وعلى ما يفرزه بناء المغرب الكبير من جو ايجابي بين الاقتصادات ومختلف الفاعليات الاجتماعية الثقافية اعتمادا على فكرة بسيطة، إن ما نجح عند غيرنا (أوروبا على سبيل المثال) يمكن أن ينجح عندنا كذلك. مسعى لم ينجح الا جزئيا إذا ما راعينا حال العلاقات بين البلدين، وفشل تماما إذا وسعنا نظرنا إلى واقع مؤسسة البناء المغاربي التي وصلت إلى نفق مظلم، مؤقتا على الأقل، على يد هذا الجيل الذي كان مهموما أكثر ببناء الدولة الوطنية، ودعم مواقعه كنخب رسمية حاكمة ومصالح في غياب الشعوب التي كانت تشاهد من بعيد بناء هذا الصرح المغاربي الذي غنت له وصفقت، رغم أنها لم تستشر في بنائه ولا تعرف كيف تدافع عنه، عندما يتعطل أو ينهار، كما يفعل الجيران الأوروبيون وهم يدافعون عن اتحادهم ويحسنون في أدائه كل يوم.

فهل أخطأت الشعوب المغاربية عندما حاولت انجاز بنائها المغاربي، بدون حريات وديمقراطية في الداخل، مما يجعلها دائما في انتظار زيارة رئيس أو خطاب ملك؟

*عن “القدس العربي”

**كاتب جزائري

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.