مِسترْ بِينْ …في قاعة الانتظار

0

قصة

أحمد انعنيعة

للمرة الخامسة…أي بعد شهر كامل وأنا أشاهد لفنطازيا مستر بين في قاعة الانتظار…إنها المرة الأخيرة التي وصلت إلى مدينة الرباط صباحا بعد أن دامت رحلتي لمدة ساعتين، قطعت خلالها حوالي 200 كلم…دخلت المركز الصحي سيدي محمد بن عبد الله حوالي 7.30 دقيقة…كانت القاعة تغص بالمرضى…مرضى جاءوا من كل أرجاء الوطن …منهم من اكترى لنفسه بيتا في الرباط…

على الساعة الثامنة ونصف صباحا، امتلأت كل الكراسي في قاعة الانتظار…لا أحد من الموظفين في القاعة… حراس الأمن فقط هم من كانوا ينظمون الناس…المغلوبين على أمرهم…أصحاب الراميد …بعد كل موعد موعد آخر أطول منه…
في كل مرة كنت أصل هذا المكان، كنت أجلس في قاعة الانتظار …وعوض أن أنتظر دوري كنت أغتنم الفرصة للتفرج على الكوميدي الشهير مستر بين وهو يتجول بين أروقة مستشفى من أرقى المستشفيات الغربية…كان البعض من المرضى يضحكون أيضا عندما يرونه يعبث ببعض الأدوات الطبية وأهل العلم يعاملونه باحترام…حينها أدركت أن لكل ذات أعماقها وأن لكل وصف أوصافه…لكن في مستشفياتنا أوصاف بلا موصوفات…وأن هذه المحنة لن تنتهي…
بدأ العمل بموظفة واحدة حوالي التاسعة والنصف….وحولها اصطفت كل النساء تمدح الآمال…وحولهن صفوف رجال واقفين انتحرت فيهم الرغبات يتحدثون عن الظلمة القاتمة…وأحيانا يضحكون في وجه مستر بين…أما النائمون في القاعة الذين قضوا الليلة بأكملها في السفر فقد كانوا يحلمون بقبورهم المعزولة هنا وهناك…كلما حولت عيني داخل القاعة، كنت كنت أشاهد جواهر تموت في ظلام النسيان…والعطور تنبعث من أماكن موحشة من أنفاسهم…الكل يحمل شحنة موجبة …والكل يشكو من يشكو من أعضاء اكتوت على فراش الموت الوشيك…أمهات تشكين من لعنات الزوبعة القاتمة التي ورثنها من طهي الأجنة …ذوات عفنها الظلام …وآباء يضربون على طبول مبحوحة…ظهرت ثقوب على حناجرهم أو متاناتهم ونمت عليهم بدور سم تنهش قلوبهم…كثير منهم كان ممددا أو ينتظر على كراسي متحركة…جلسوا جنبا إلى جنب يتقاسمون الحدود على الكراسي…وبينما كانت نفوسهم ترتعش بلا توازنات، كانت ذواتهم الطيبة التي تخلصت من أنفاسها قد فقدت أرواحها …نسيت خالقها…نسيت الملائكة والرسل وبدأوا يستنجدون بالأوثان والأولياء الصالحين….لكنهم يضحكون لمستر بين وهم ينتظرون…وكثير من الممرضين يرتشفون قهوة الصباح في المقهى المجاور….
لم يكن مستر بين يأخذ موعدا من أحد…كان يقضي كل حاجياته بيده الطاهرتين والكل الأطباء يجرون حوله…لكن في معهد الإنكولوجيا بالرباط، الحراس هم من يستفسرون المرضى وهم لا يعلمون…يستهزئون منهم…يضربونهم ركلا…يهددونهم بعدم الاستفادة أو يتخلصون منهم بتوجيههم إلى مرافق مغلوطة…الناس لا يعرفون القراءة وفي أيديهم وثائق مكتوبة بلغة أجنبية…جل الأطباء متدربون…يتركون الحرية للممرضين في إعطاء المواعيد للمرضى وهم لا يعرفون خطورة الآلام التي يعانون منها…كل المرضى يتحركون في بركة الأمل…في دقيقة يقلب جدول أعمالهم…نعم، المطر يعبث بنفوسهم …ومستر مازال يضحك الناس في القاعة…كانت الساعة الواحدة زوالا…والكثير من الممرضين غادروا أماكنهم….
بعد شهر من الضحك مع مستر بين…انتهت كل الإجراءات الإدارية والطبية…كانت حينها الثالثة زوالا…والناس متمددة …نائمة نوم البهائم في قاعات الانتظار….وأعطي الأمر بالتطبيب على الفور لفائدة بعض المرضى …لكن ممرضي الجناح قرروا لأن يكون الموعد بعد 15 يوما…عندها فهمت ان الوعي ولد بلا إنسان وأن المتع لا تلتقي إلا في صفوف السعداء عندما خرج مستر بين من مشفاه صحيحا معافى…وربما يكون قد مات كل من ضرب له موعد في شهر 5 أو 6 أو 7….لأنه استفاد من ضحك مستر بين في قاعة الانتظار….أو إنهم قد يعودون لأنهم انكووا بمزحات الكوميدي الشهير مستر بين …ومعهم ربما سأعود….

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.