إنه “الربيع” اليوناني !

0

نورالدين اليزيد

نُحيي رئيس الحكومة عاليا لجرأته واستماتته في الدفاع عن شعبه أمام القوى المالية الدولية المانحة، وعدم تفضيله للتوازنات الماكرواقتصادية على حساب ضرب القدرة الشرائية والحياتية للمواطن، بل ورفضه أية خطة إصلاحية مقترحة من المؤسسات النقدية الدولية لا تتضمن إنصافا اجتماعيا !

لا تذهبوا بعيدا في تفكيركم ولا تحسبوا أن الرجل المتحدث عنه هو السيد عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة المغربية المبجل، فالأمر كما يوحي بذلك عنوان المقال يخص رئيس وزراء اليونان، ولا مقارنة مع وجود الفارق الشاسع !        

بلد كاليونان يرفض في استفتاء عام وحر ونزيه بنسبة 61.31 بالمائة مقابل 38.69 بالمائة إجراءات تقشفية قاسية تفرضها جهات دائنة عالمية، ويعبر عن استعداده التضحية بـ”فردوس” اسمه منطقة اليورو، لا يمكن للمرء إلا أن يحترم هذا البلد ويحيي عاليا شعبه الحر، الذي لم يرفض لا هو ولا ساسته فقط إجراءات تستهدف بالدرجة الأولى لقمة وجيب المواطن، بل إنه وضع تحت قدميه وهو يدوس -ذاهبا إلى صناديق الاقتراع- فضاء أوهموا الناس بأنه “جنة” على الأرض يقتضي الدخول إليها المرور، ولا بد، عبر رزنامة من الإجراءات المجحفة. ولم يعبأ هذا الشعب بالاستمرار في “اتحاد” أوربي إذا كان المقابل  والضريبة هو مزيد من التفقير والتبعية، وما يعني ذلك من وقوف ذليل على أعتاب المؤسسات المانحة للاقتراض المصحوب بالجلد والتوبيخ والتأنيب كلما أغفل الساسة أو تقاعسوا عن فعل هذا الإجراء أو لم يفعلوا ذاك القرار..      
في بلادنا هذه الآمن أهلها منذ عقود والجهات الدائنة تفرض علينا الإجراءات تلو الإجراءات التي تستهدف الإدارة والتعليم والتشغيل وغيرها من القطاعات الحيوية..وعلى مر التاريخ وإلى الآن يبدي مسؤولونا الاستجابة التلقائية والتهافت المنقطع النظير والتماهي لحد الخنوع مع كل قرارات تلك الجهات الدائنة، حتى وإن كانت قرارات تلك الجهات هي السبب والمسؤول الأول عما آلت إليه أوضاعنا وما وصل إليه واقعنا المعاش من حال مأسوف عليه؛ فلا الإدارة صلُح حالها ولا التعليم تجاوز مشاكله المتفاقمة ولا التشغيل استوعب جحافل خريجي المؤسسات التعليمية!!
وعلى حد علمي لم يعلن مسؤول مغربي معين، يوما ما، رفضه لإجراء أو قرار أو توصية أصدرتها مؤسسة نقدية دولية، وأما أن يكون الشعب أو ممثلوه أخذوا علما بتلك الإجراءات فإن ذلك من قبيل السوريالية التي يعكسها البون الشاسع بين مسؤولينا المحترمين وعامة الشعب الذين يتحملون سيف إجراءات و”إصلاحات” تلك المؤسسات النقدية تحت يافطة براقة وخداعة ومخادعة ومدغدغة للأحاسيس بحملها شعار الوطنية اسمها الإصلاحات الماكرواقتصادية!!
فمنذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي مع بداية نهج سياسة التقويم الهيكلي وإلى غاية اليوم في ظل وجود حكومة تزعم زورا وكذبا أنها حكومة جاءت ببرامج اجتماعية صرفة، نجد كل الحكومات المغربية تجتهد ما بوسعها لإرضاء الجهات الدولية الدائنة لأجل حصولها على المزيد من الديون، وفي المقابل تمعن هذه “الجهات” في فرض إجراءاتها على الإدارة التي يكون ظاهرها “الإصلاح” لكن ما يخفيه باطنها هو مزيد من التبعية والإذلال وتفقير الشعب؛ وإذا كانت المؤسسات المانحة بتلك الإجراءات إنما تهدف بالأساس إلى ضمان استعادة ديونها خلال الآجال المتفق عليها، فإن الضحية الأكبر يكون هو الطبقات الشعبية والمتوسطة إذا سلمنا تجاوزا بوجودها في بلادنا !

ويكفي إلقاء نظرة على أحدث تقارير بعض تلك الجهات المانحة (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بالخصوص) الموجهة للمغرب، ليتبين لنا مدى حرصها على استرجاعها أموالها-بالفائدة طبعا- وعدم إيلائها أي اهتمام للشعب، بحيث أبدى خبراء تابعون لصندوق النقد الدولي زاروا المغرب بداية السنة الجارية “ارتياحهم” للإجراءات التي انخرطت فيها حكومة بنكيران، والتي تجلت بالخصوص في تقليص ميزانية الإستثمار، والحد من التوظيف في القطاع العام، والرفع من الضريبة على القيمة المضافة على مواد استهلاكية موجهة في الغالب لعامة الشعب، وإعادة النظر في تعويضات الموظفين المتقاعدين، والكف عن دعم المواد النفطية في إطار البدء بإصلاح صندوق المقاصة الذي يستهدف رفع الدعم عن العديد من المواد الحيوية الأخرى كالسكر والدقيق وغيرهما.

وغير خفي على أحد كوْن كل هذه الإجراءات بقدر ما ترهن مستقبل البلاد وتمس بسيادته الوطنية، بقدر ما تضرب كل شعارات الحكومة الرنانة بكونها حكومة “برنامج اجتماعي” عرض الحائط، ليبقى السلم الاجتماعي مهددا في أي وقت بردة فعل المواطن الذي لن يصبر طويلا على استهداف قوته اليومي ومعاشه المستقبلي !      

ولمعرفة أكثر مدى خطورة ردة فعل المواطنين يكفي أن نبحث عن ذلك في ما بين سطور التصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة اليوناني ألكسيس تسيبراس مباشرة بعد إفراز الاستفتاء العام ببلاده النتيجة التي كان واثقا من تحقيقها وهي قول “لا” للمؤسسات المانحة؛ حيث أكد في كلمة عبر التلفزيون أن حكومته “مستعدة لاستئناف التفاوض على خطة إصلاحات ذات مصداقية ومنصفة اجتماعيا” !  أنظروا..المسؤول اليوناني يربط الإجراءات بالإنصاف الاجتماعي، وبمفهوم المخالفة –كما يقول القانونيون- فإنه يريد أن يقول لهم أن إجراءاتكم الإصلاحية غاب عنها الانصاف الاجتماعي ولذلك رفضها الشعب.. 

استفتاء اليونان جعل أوروبا ترتج رجة غير مسبوقة استنفرت زعماء القارة العجوز وأجروا الاتصالات وعقدوا اللقاءات لتطويق ما قد تسفر عنه هذه “النهضة” اليونانية الفريدة والمفاجئة من تداعيات على باقي الطيف الأوروبي، ولاسيما على التيارات السياسية التي تتقاسم وحزبَ رئيس الوزراء اليوناني نفس الهم الاجتماعي، ما قد ينسف الفضاء الأوروبي برمته الذي لطالما أثنى عليه القادة والزعماء وتغنوا كثيرا بحصانته ضد أي انزلاقات، مستندين بالطبع في ذلك بالإجراءات الصارمة المفروضة على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.        

والتخوف من هذا “الربيع اليوناني” الذي أينع فجأة ليعلن العصيان في وجه عصا الإصلاحات الموصى بها من طرف المانحين في مقابل الجزرة التي يبدو أن الشعوب ما عادت تريدها على حساب تمريغ كرامتها وإذلالها بالتقشف المبالغ فيه، عكسته (التخوف) تصريحات الخبير الاقتصادي الأوروبي البارز روبيرتو بروني بقوله إن الأحزاب المتطرفة في أوروبا مثل حزب “الاستقلال ” في بريطانيا، وحزب “الجبهة الوطنية” في فرنسا، وحزب “رابطة الشمال” في إيطاليا، وحزب “نحن نستطيع” في اسبانيا باتت تمتلك سلطة تفاوض كبيرة داخل بلادها بفضل تصويت الأحد، وسوف تتحدى حكوماتها بشأن برنامج التقشف الذي تم تنفيذه وكذا مغزى الإبقاء على الاتحاد الأوروبي على ما هو عليه !

نغلق القوس هنا على اليونان ونفتحه على بلادنا المغرب التي يتم فيه رهن مواطنيه لسنوات وأجيال بقروض لا تذهب لإنعاش سوق التشغيل ولكن لمحاربته وفي أحسن الأحوال للتقليل منه في الوظيفة العمومية، وهو ما لا يخفيه المانح الذي يوصي بالتقليص من الاستثمارات؛ ثم تهديد معاشات المواطنين بالرفع من مساهمات المستفيدين منها الشهرية وتمديد سن التقاعد، وهو ما يعمل من أجله رئيس حكومتنا حاليا عبد الإله بنكيران الذي يكد ويجتهد أيضا لرفع الدعم عن كل المواد الاستهلاكية الموجهة لغالبية الشعب، مع ما يتبع ذلك من غلاء في الأسعار وارتفاع في أعداد جيوش العاطلين عن العمل..كل ذلك ليبدو السيد بنكيران ومن قبله مسؤولون رحلوا أنه التلميذ النجيب الذي أنجز الدرس تماما كما طُلب منه !

وأما الشعب عندنا ها هنا فلا يُستفتى في مثل هذه الأمور بالرغم من أنه هو من تدور عليه الدوائر أو فلنقل الرَّحى !            

 ملحوظة: أشكر أحد المعلقين على كتاباتي في الفيسبوك الذي استوحيتُ منه عنوان المقال.

[email protected]

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.