نورالدين اليزيد
إذا كان وزراء العهد السابق وتحديدا (مع استثناءات) ما قبل مجيء حكومة التناوب سنة 1998، ينعمون بخيرات ومزايا وريع المنصب الوزاري ولا يترددون في التطبيل والتزمير مرددين الأغنية الشعبية المتوارثة عن الأجيال المغربية “كولو (قولوا) العام الزين..”، بحيث لا يبدون أي تذمر من القطاعات التي كانوا وزراء بها بالرغم من كل المشاكل التي كانت تتخبط فيها، فإن وزراء ما بعد “الربيع المغربي” الذي هبّ عليلا على المغاربة ومنحهم دستورا متقدما جدا على غيره من الدساتير السابقة لا بل وحتى على غيره من دساتير بلدان المنطقة، يصرون على أن يكونوا من الذين يأكلون النعمة ويسبون الملة !
ولن نعود، على الأقل في هذا المقال، إلى الحديث عن السيد رئيس الحكومة الذي ما فتئ يرغد ويزبد ساخطا على الأوضاع الكارثية التي وجد عليها ميزانية الدولة وعلى الفساد المستشري بكل مناحي الإدارة، وبدل أن يحارب الفساد ويمسك عن هدر المال أو يرحل سارع إلى تمتيع المفسدين بصك غفران عنوانه “عفى الله عما سلف”، بل أبى إلا أن يجزي العطاء لبعض أسلاك الموظفين والنواب البرلمانيين، في مقابل استهداف القدرة الشرائية للفئات الضعيفة من المجتمع عبر الرفع من الأسعار وسحب الدعم لبعض المواد والتكثير من التضريب على العديد من المواد، ثم في الأخير يشتم ويسب ويهدد كل من يريد زحزحته عن كرسيه الوثير بمبرر أنه هو وحزبه من أنقذ المغرب من دمار “ربيع عربي” ! وهناك من وزراء السيد عبد الإله بنكيران من هم يمعنون في شتم هذا البلد الذي أنعم عليهم فجأة وبقدرة قادر بحقائب وزارية لم يكونوا يرونها حتى ولو في الأحلام !
الأمر ليس فيه مزايدة في الوطنية ولا فيه تجني على أحد ولكن فقط هي حقائق ينبغي لنا التوقف عندها قليلا؛ فكيف بوزير تعليمنا العالي السيد الحسن الداودي الذي يبدو أنه يعجز عن تقديم وصفة ناجعة لإصلاح مكامن الخلل في هذا السلك التعليمي المنهك بالأعطاب والأمراض، يصر على بقائه في منصبه دون أن يتردد بمناسبة وبغير مناسبة في الإساءة إلى المؤسسة الجامعية المغربية التي تخرج منها الآلاف من المغاربة أولهم رئيس الدولة (الملك).
والواقع أن شريط الفيديو الذي نشره موقع “اليوم24” والذي يظهر السيد الوزير المنتمي إلى الحزب “الإسلامي” الحاكم (العدالة والتنمية) وهو “يشرح” لزميله الوزير الأردني وضعية التعليم العالي ببلادنا، بقدر ما يظهر إلى أي حد هو جاهلٌ هذا الوزير بأوضاع الجامعة والتعليم عموما بحيث يخلط بين التعليم العالي وشقيقه ما دون الباكالوريا وشقيقهما الثالث التقني، بقدر ما يدين هذا الوزير على سلاطة لسانه وإرخائه العنان له لازدراء وتحقير مؤسسات وطنية والنيل من قدسيتها وهيبتها، وهي وحدها مبررات ومسوغات قد لا تقود هذا الوزير المعروف بتهكمه إلى إقالته وإعفائه من المنصب الحساس فحسب بل وجره إلى المحكمة بتهمة إهانة أحد “رموز” البلاد إذا أخذنا بمبدأ القياس في القاعدة الجنائية !
وكم يجد المرء نفسه مستغربا من تصريحات مثل هذا الوزير وهو المفروض فيه التزام قدر كبير من التحفظ، من منطلق أنه رجل دولة، أن يذكر في سياق حديثه عن كون طلبة الجامعات ولاسيما جامعات الآداب والحقوق هم الذين رسبوا ولم يفلحوا في الالتحاق بالمعاهد التقنية ومؤسسات التكوين المهني، وأن جل خريجي هذه المؤسسات الجامعية يكون مآلهم البطالة، ضاربا المثل بكون صناعة السيارات في طنجة والقنيطرة وصناعة الطائرات تحتاج إلى مزيد من التقنيين ولا تجدهم.
بهذه البساطة المختزلة والساذجة يريد السيد الوزير التقليل من أهمية توجه الطلبة المغاربة إلى تخصصات الآداب والحقوق، و”ينصحهم” بتغيير الوجهة إلى مؤسسات التكوين المهني؛ وهو في سبيل ذلك يشير إلى معطى أو مؤشر خطير جدا لأجل تحفيز الطلبة على اتباع ما يزعم عندما يذكر أن ملك البلاد استقبل مؤخرا متخرجين من معاهد التكوين ولم يستقبل المتخرجين من الجامعات، في إشارة توحي بأن الملك مع توجهه ذاك غير الموضوعي وغير العملي الذي يروم إقصاء بل وتحييد التكوين والتعليم في شُعب العلوم الإنسانية والاجتماعية بما فيها الآداب والحقوق !
لكن دعونا نحاول أن نصدق ما يتفوه به هذا الوزير ونسير معه إلى أبعد مدى ما دام أنه يعطينا “البديل”، برأيه، لإنقاذ الشباب المغربي من البطالة، وهو المنتمي لحزب عندما جاء إلى الحكم أول ما اتخذه من قرارات كانت إجراءات ضد العاطلين من حملة الشهادات عندما ألغى مقررات صادرة عن الحكومة السابقة تقضي بتوظيف هؤلاء على دفعات، ولنقم بنظرة خاطفة عن القطاعين اللذين ذكرهما في حديثه أي قطاع السيارات والطائرات، لكن قبل ذلك لا نحتاج طبعا إلى تذكير السيد الوزير، غير المتحفظ على ما يقول، أنه ما علمنا أن هناك دولة من دول المعمور تريد إغلاق مؤسسات جامعية للعلوم الإنسانية أو الاجتماعية كالآداب والحقوق على حساب أخريات في سلك التكوين التقني، وإن كانت هناك بطبيعة الحال أولويات لهذا القطاع أو ذاك توجه تبعا لمتطلبات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وبحسب المعطيات المتوفرة فإن صناعة الطائرات التي كثر اللغط بشأنها ببلادنا لا تهم إلا صناعة أو تجميع بعض المكونات التي تحتاج إليها كبريات شركات الطائرات العالمية كالأسلاك والألياف وأجزاء أخرى صناعية، التي اضطرت هذه الشركات إلى فتح فروع لها ببلادنا، ليس حبّا في شعبها أو رغبة منها في محاربة البطالة في صفوفهم ولكن فقط لأن هناك امتيازات ضريبية وتحفيزات عقارية مهمة تمنحها الدولة إضافة إلى رُخص اليد العاملة وحتى التقنية إلى درجة الرخص الفاحش الشبيه بالسخرة والعبودية!
ومهما يكن فإن الترحيب بمثل هذه الشركات واستثماراتها في ظل عجز الدولة عن توظيف أبناء الوطن، يكاد يكون من الأمور التي لا خلاف عنها إذا ما أخلصت النيات وتم احترام كرامة المواطن وضمان شروط اجتماعية محترمة للعمل، لكن السؤال هو ما حجم هذه الاستثمارات وما قدرتها على استيعاب جيوش خريجي المعاهد التقنية؟ بحيث على الرغم من كل هذا الضجيج فإن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن القطاع وظف إلى غاية سنة 2013 فقط ما يناهز 8 آلاف باحث عن عمل، ويطمح لأن يشغل في أفق سنة 2020 نحو 23 ألف شخص، في الوقت الذي تشير دراسات وتوقعات مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل إلى أنه في أفق نفس السنة 2020 ستصبح مختلف معاهد ومراكز التكوين ببلادنا قادرة على تكوين ما يزيد عن مليون و 700 ألف خريج وخريجة، منهم مليون و 140 ألفا في إطار التكوين المتوج بدبلوم، وما يزيد على 580 ألف في إطار التكوين التأهيلي، فماذا يمثل قطاع الطيران هذا أمام هذا العدد الهائل من خريجي معاهد التكوين هذا دون إغفال ما ستُخرجه باقي المعاهد والمؤسسات الجامعية من مهندسين وتقنيين؟ !
المثال الآخر الأسوأ في نظرنا الذي يضرب به وزير التعليم العالي “الحسن” الداودي المثال “المحتذى به” لترك جامعات العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية والإقبال على معاهد التكوين، هو شركات صنع السيارات وأجزائها؛ والمعطيات تقول إن مصنع “رونو” في طنجة الذي ينتج علامة السيارات “داسيا” الموجهة للتسويق بالشرق الأوسط وإفريقيا إضافة إلى تسويق جزء من منتوجها بالمغرب، أضف إليه مصنع “بوجو-ستروين” الذي أُعلن هذه السنة عن بدء تشييده في السنة المقبلة ولن ينتج أول سياراته إلا في سنة 2019، هذا بالإضافة إلى باقي المصانع العاملة في صنع مكونات وأجزاء السيارات، لن يكون بمقدورها مجتمعة إلا تشغيل 165 ألف شخص وفق ما رسمه مخطط التسريع الصناعي للحكومة الذي يهدف من أجل ذلك إلى مضاعفة إنتاج السيارات وبلوغ 800 ألف سيارة في أفق سنة 2020.
بيد أن الجانب القاتم في صناعة السيارات هذه هو ذاك المتعلق بالآلاف من المغاربة الشباب والشابات الذين تحت وطأة الخوف من شبح البطالة يقبلون بالعمل في العشرات من مصانع أجزاء السيارات، بشروط هي أقرب إلى تلك السائدة في سوق النخاسة والعبودية وبتحريض واضح وبيِّن من الحكومة وتحت غطاء مؤسساتي وقانوني من خلال مؤسسة الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات (لانابيك)، التي تتوسط للعمل بهذه المصانع مقابل أجور لا تتعدى الحد الأدني للأجر (ما يناهز 2300 درهم شهريا)، وبدون تغطية اجتماعية لمدة سنتين قبل الترسيم، حيث تكون المدة كافية لأصحاب هذه المصانع لكي يتخلصوا من الذين أمضوا سنتين وتشغيل أفواج أخرى بنفس الشروط إلا مَن كان ذا حظ عظيم فإنه قد يفلت ويحظى بعد السنتين بأجرٍ لا يتعدى في الغالب الـ4000 درهم وتغطية اجتماعية..وهكذا تسير سلسلة الإنتاج على حساب عرق الشباب المغربي وفي تواطؤ صارخ من الحكومة والمسؤولين !
أهذه هي المصانع التي تريد أيها الوزير الداودي أن تستوعب جحافل الخريجين من حملة الشواهد؟ !
كنتُ أتمنى أن تتوفر لديك الجرأة على قول الحقيقة وهي فشلك أنت وحكومتك التي جاءت رافعة شعارا اجتماعيا فإذا بها تؤزم الوضع الاجتماعي أكثر، عبر سياساتها اللاشعبية الحريصة على إرضاء مؤسسات النقد الدولي المانحة والحفاظ على التوازنات الكبرى في ميزانيتها، إنها نفس الحقيقة التي كان عليك قولها لو أن عندك قدرا يسيرا من الاحترام لشعبك وهي أن لا ذنب لحاملي الشواهد الجامعية من أبناء وطنك هؤلاء الذين تتبرم منهم اليوم وتحبط عزيمتهم بقولك المزعوم، وأن الذين من تقلدوا المنصب من قبلك، وها أنت اليوم تفعل نفس ما فعلوا بهروبك إلى الأمام، هم وأنتم من تسبب في أزمة التشغيل وأزمة العطالة هذه لا الشّعب والتخصصات الأدبية والحقوقية التي لا تنسى أن الملك محمد السادس هو أحد خرّيجيها !
ملحوظة لا بد منها: كاتب المقال هو صحافي خرّيج جامعة حقوق مغربية وهو يعمل وليس عاطلا والحمد لله، أرأيت كيف أنت على خطأ أيها الوزير؟ !