هل المغرب بحاجة إلى “ملكية برلمانية” ؟ !

0

*فضيل التهامي

يطرح نقاش “الملكية البرلمانية ” كشكل للنظام السياسي في المغرب بشكل “مناسباتي”، طرح بعد الاستقلال من طرف الجناح التقدمي لحزب الاستقلال آنذاك، طرح أيضا في سنوات التسعينيات مع الإصلاحات الدستورية عام 1992 و 1996، ليطفو إلى السطح بعد انطلاق الحراك الاجتماعي الذي تزعمته حركة 20 فبراير إبان عام 2011.

إن هذا النقاش في – حد ذاته –  يعد  مطلبا تاريخيا رفعته العديد من الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى المؤسسة الملكية – كفاعل مركزي في النسق السياسي المغربي – للنظر فيه ، بغية التنازل عن جزء من اختصاصاتها، أو بالأحرى البقاء كرمز سيادي يسود ولا يحكم على شاكلة الملكيات الأوروبية . لكن المسار التاريخي أظهر أن المؤسسة الملكية لم تستجب لهذا المطلب كما تم رفعه تحت مبرر ” الخصوصية المغربية “، وبقيت ملكية تنفيذية تسود وتحكم، بل هناك من يتجه إلى القول أنها وطدت صلاحياتها أكثر فأكثر، لا سواء من داخل النص الدستوري أو من  خارجه.

في الوقت الذي عرفت فيه أغلب الدول العربية”اهتزازات أمنية” بفعل الانعكاس السلبي للحراك العربي، استفرد المغرب بحالة الاستقرار ، مما جعله أنموذجا يحتذى به في المنطقة برمتها . فهل هذا الوضع  -الإيجابي – يمكن أن يدفع المغرب إلى” دمقرطة ” حياته السياسية عبر وضع أرضية لتبني نظام “الملكية البرلمانية “كما هو متعارف عليه في التجارب الأوروبية ؟

هذا السؤال يدفعنا إلى طرح أسئلة فرعية أخرى من قبيل: هل الشروط الموضوعية متوفرة للمطالبة بنظام “الملكية البرلمانية ” في المغرب ? وهل المؤسسة الملكية تدرك أن المجتمع المغربي يعيش ديناميكية على المستوى السوسيولوجي  ؟ وهل فعلا نتوفر على نخب سياسية ومجتمعية قادرة على خوض هذه التجربة إن توفرت الشروط ؟

أولا –  ” الملكية البرلمانية ” : هل نتوفر على شروط تأسيسها مجتمعيا ؟

أغلب الباحثين المغاربة الذين حاولوا تفسير إمكانية تأسيس ” ملكية برلمانية ” كشكل للنظام للسياسي في المغرب ، ارتكنوا في مقارباتهم إلى المدرسة الفرنسية في علم السياسية ، والتي تعتمد المدخل الدستوري في التحليل . فنظام  ” الملكية البرلمانية ” – حسب هؤلاء – لا يخرج عن نطاق توسيع مجال القانون ، و إعطاء الأهمية للمؤسسة التشريعية على حسب المؤسسات التنفيذية ( الحكومة – رئاسة الدولة ).

هذه المقاربة ضعيفة من الناحيتين المنهجية والتحليلية،  فلنفترض جدلا أن المغرب يتوفر على دستور ديمقراطي ، فيه فصل للسلطات ، يعطي حيزا واسعا لمجال القانون ، موقع المؤسسة الملكية فيه لا تتعدى صلاحية الحكم (بفتح الحاء )كباقي الملكيات الأوروبية. ..هل هذا كافي للقول أن نظام الحكم في المغرب هو نظام ملكي برلماني؟ وإذا قبلنا بهذا مبدئيا ..فما موقع صلاحيات المؤسسة الملكية خارج الدستور ؟ نقصد إمارة المؤمنين ومراسيم البيعة والولاء ، و باقي الطقوس التقليدية الأخرى …

إن الشروط الدستورية  والسياسية غير كافية  للتحليل ، وليست محددا مركزيا ، لذا وجب التساؤل عن الشروط السوسيولوجية ، فهل المجتمع المغربي – بكل مكوناته – يمكن أن يتعايش مع نظام الملكية البرلمانية كنمط في الحكم ؟

إن المتأمل في تركيبة المجتمع المغربي لا يمكن أن ينفي “تقليدانية” هذا المجتمع رغم مظاهر الحداثة التي تظهر عليه ، كما لا يمكن أيضا النفي بوجود رواسب منطق القبيلة والعشيرة و الولاء للبديهيات وحتى الخرافات أحيانا (حالة الأضرحة ) .

إن أغلب المغاربة يحملون تمثلا سوسيولوجيا خاصا عن المؤسسة الملكية كجهاز تنفيذي ، فعلاقتهم بها علاقة تاريخية تعود إلى قرون خلت ، لذا من الصعب أن يستصيغ المواطن المغربي البسيط مسألة اكتفاء المؤسسة الملكية بصلاحيات رمزية فقط ، و هو معتاد على مشاهدة الملك في القنوات الرسمية يدشن مشاريع في القرى النائية .

فهذا الوضع لا ينفي بدء تبلور واقع آخر مضاد، مضمونه أن المجتمع المغربي ليس مجتمعا “ستاتيكيا ” كما حددته بعض الدراسات الكولونيالية ، بل هو مجتمع يعرف ديناميكية سوسيوسياسية،  يمكن أن تدفع بوضع الحجر الأساس لنظام” الملكية البرلمانية ” إن توفرت الإرادة السياسية  ، فهناك قاعدة شبابية مهمة ، اتساع رقعة التعليم ، بروز حركات اجتماعية خارج النسق السياسي الرسمي متجاوزة للبنيات السياسية التقليدية ، الانفتاح على المحيط الخارجي ، بروز هيئات المجتمع المدني رغم ضعفها ،  ارتفاع نسب التمدن ، تنامي الطبقة الوسطى، انتشار التكنولوجيا. …كلها عوامل يمكن أن تساهم في بلورة ثقافة سياسية جديدة ، وبالتالي  فتح الأبواب في اتجاه ” لبرلة ” كل من المجتمع و الدولة ، ومن تم تصبح مفكرة المواطن المغربي البسيط قابلة لنفض غبار الثقافة التقليدية التي ترسبت بفعل الإيديولوجيا والتنشئة الاجتماعية بالفهم الدوركايمي.

ثانيا  – “الملكية البرلمانية ” : موانع التأسيس

حتى و إن افترضنا أن الشروط المجتمعية متوفرة بالكامل لتأسيس نظام ” الملكية البرلمانية  ” بالمغرب ، وحتى إن توفرت الإرادة السياسية للمؤسسة الملكية، فهناك بعض الموانع ، أولها يتجلى في وجود “شبكة علائقية ” قوية ، لها مصالح مشتركة ، وتتحكم في الاقتصاد و بالتالي في القرار السياسي بشكل ضمني وصريح أحيانا . هذه الشبكة يصطلح عليها في الأدبيات السياسية ب”الدولة العميقة “، والتي تتحرك وتضغط  لمنع حدوث أي تغيير في البنى السياسية والمجتمعية الذي لا يخدم مصالحها الاقتصادية والاجتماعية ، وكذا أجنداتها السياسية . هذا ” التغيير الممنوع”  هو في نفس الوقت المدخل المعول عليه لتأسيس نظام “الملكية البرلمانية” . باختصار شديد إنها هي – ” الدولة العميقة “- من تفرمل دوران عجلة التاريخ نحو هذا النمط المأمول من الحكم.

إن آخر مناورة أقدمت عليها “الدولة العميقة ”  لمنع أي اختلال في طبيعة البنى السياسية والمجتمعية المكونة للمجتمع كانت إبان خروج حركة20 فبراير إلى الشارع ، فقد حدث أن ضغطت على مناضلي الحركة الاجتماعية،  من خلال إعطاء الضوء الأخضر لبعض الشركات والمقاولات التي تملكها لطرد العديد مِن مَن خرج إلى الشارع من وظائفهم، مع العلم أن أغلبهم من الطبقة الوسطى المثقل كاهلها بالقروض والضرائب .

ثاني هذه الموانع هو سياسي أيضا ، يتمثل في وجود نخب سياسية مغربية  “مريضة “وغير قادرة على خوض هذا الغمار، نخب ضعيفة تنظيميا وإيديولوجيا، لا يهمها سوى تحصيل المكاسب والمصالح الذاتية ، باختصار نخبنا السياسية أضحت نخبا ” انتهازية ” ، لكن ما السبب في ذلك ؟ كيف تحولت من نخب قوية وفاعلة ومؤثرة خلال الستينيات والسبعينيات إلى نخب هجينة في الفترة الراهنة ؟

إن الجواب عن هذا السؤال يقتضي استحضار علاقة المؤسسة الملكية بهذه النخب تاريخيا ، خاصة بعد الاستقلال، فالنخب التي أفرزتها الشروط الموضوعية انبثقت وهي قوية ومؤثرة في الفعل السياسي المغربي ، لكن مع مرور الوقت وطول فترة صراعها مع المؤسسة الملكية تعرضت للضعف والتهجين .أما النخب التي لم تولد ولادة طبيعية فهي أصلا خرجت معاقة من مشتلها.

إن عملية البحث عن امكانية إيجاد نخب سياسية من عدمها لقيادة تجربة نظام “الملكية البرلمانية ”  غير كافية، بل تحتاج إلى نخب مجتمعية للتفاعل، على اعتبار أن نخب المجتمع المدني هي من تضغط على نخب المجتمع السياسي لبلورة وتنفيذ سياسيات عمومية معينة ، كما هو معمول به في أرقى الديمقراطيات البرلمانية. لكن في الحالة المغربية ، نخب المجتمع المدني كنخب المجتمع السياسي، مازلت فتية ، ضعيفة وهجينة بدورها ، بل هناك صعوبة حتى في التفريق بينهما ( نخب المجتمع المدني /نخب المجتمع السياسي  ) ، تجد كل نخبة سياسية تصنع ذراع مجتمع مدني، وهنا يقع الاختلاط، وتطرح إشكالية الاستقلالية ، ويظهر عدم قابلية المجتمع المدني بدوره في التأثير والمساهمة في تجربة نظام  ” الملكية البرلمانية ” إن وجد .

هذا الوضع يمكن إسقاطه أيضا على النخب الأكاديمية ، التي بدورها إما أنها  فضلت  أبراجها العاجية، ونقاشات الصالونات المريحة، والتنظير، وتغليض المفاهيم الأكاديمية ، وإما أنها اختارت موقعا جغرافيا آخر،  ..في كلتي الحالتين يغيب دورها إزاء مجتمعها مع وجود استثناءات.

عموما،  فبعد  خروج المغرب  من دوامة ” الربيع العربي ” منتصرا، بحفاظه على مكسب حالة الاستقرار – وقيمة الاستقرار لا تدركه إلا الشعوب التي دمرت ( بضم الدال ) أوطانها- ، زادت  فرصته  أكثر في “دمقرطة ” حياته السياسية – إن تم استغلالها –  عبر إمكانية تأسيس نظام  ” الملكية البرلمانية ” أكثر من أي وقت مضى، خاصة أن وضعه هذا  سيساعد على صنع الأرضية  المناسبة لذلك ، عبر جلب رؤوس أموال  أجنبية، وبتالي تصبح إمكانية” لبرلة ” الحياة الاقتصادية والسياسية حاضرة أكثر … ، ورغم إمكانية توفر كل هذه الشروط ، ومحاولة تجاوز الموانع السالفة  الذكر ..هل المؤسسة الملكية ستسمح بالتنازل عن صلاحياتها لا سواء من داخل النص الدستوري أو من خارجه ؟ ومتى يحين الوقت  لذلك ؟ هذه الأسئلة وغيرها ، المستقبل القريب – وربما البعيد  –  هو من سيجيب عليها .

*باحث في العلوم السياسية – جامعة محمد الخامس

https://www.facebook.com/fadil.touhami?__nodl

[email protected]

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.