التاريخ يعيد نفسه.. والفشل أيضا

0

إدريس الكنبوري

في مطلع القرن السادس عشر كانت الإمبراطورية العثمانية في أوجها، إذ فتحت ذراعيها بشكل عريض حتى ضمت إليها عددا من الأقاليم التي كانت خاضعة لأوروبا، فصارت تشكل تهديدا مباشرا لعمق المسيحية الغربية، مما جعل الأوروبيين يتحسبون ويجمعون قوتهم لمحاربتها. لم تكن الإمبراطورية تكتفي بما تحتها من ولايات فطمحت إلى المزيد في إطار الفتوحات داخل العمق الأوروبي؛ وكان السلطان سليمان، الذي يلقب بالقانوني، قد أصبح بمثابة سلطان على نصف العالم ووكيل على النصف الآخر. صارت الإمبراطورية القطب الدولي الوحيد آنذاك، ولم يكن يعرف شيء عن ثنائية القطبية التي لم تظهر إلا في القرن العشرين، كطريقة ذكية لتقاسم الأرباح، وتحولت العاصمة في القسطنطينية إلى القلب النابض للعالم، وجسر بين أوروبا المسيحية والمشرق الإسلامي، لا يفتح إلا بإذن السلطان.

كان الخصم الوحيد للإمبراطورية العظمى هو الغرب المسيحي، أما الشرق الإسلامي فقد كان السلطان واثقا من نفوذه عليه. لكن في شمال الإمبراطورية كانت الدولة الصفوية في إيران الحالية متوجسة من نوايا السلطان السني، فهذا الأخير لا يمثل مشروعية الإسلام ولكن أيضا مشروعية السنة فيه. وذات يوم قرر الشاه طهماسب اغتيال والي بغداد العثماني، في رواية طويلة يحفظها لنا التاريخ، فقرر سليمان القانوني بدوره جمع جيش تعداده مائتا ألف مقاتل وشن معركة على الصفويين، استمرت من 1532 إلى 1555، ولكنها مع ذلك كانت أقصر بكثير من حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان في الجزيرة العربية، التي استمرت قرابة أربعين عاما وخلدها لنا الشعر الجاهلي.

تختلف مواقف المؤرخين في تأويل تلك الحرب الطويلة التي سحق فيها العثمانيون الصفويين واستولوا على أراض كانت تابعة لهم، بعضهم يراها مرآة تعكس الخصام التاريخي بين السنة والشيعة، وبعضهم الآخر يراها صراعا قوميا بين قوميتين هما العثمانية والفارسية؛ لكن التفسير الثاني يبدو الأقرب إلى الصواب، فكلما ضاقت المسافة الجغرافية بين بلدين كلما كانت الخصومة ذات لون قومي أو وطني أو عرقي، وكلما بعدت الشقة بينهما كلما قلت تلك النزعة وحلت مكانها الإيديولوجيا، بيد أنه كلما كان من الضروري وجود مسوغ يعطي للأمور منطقا كلما تم اللجوء إلى الدين لتبرير النزاعات القومية.

كانت هذه المواجهة بين القوميتين بداية الصراع بين إيران والعرب في العصر الحديث، خرج العرب من الإمبراطورية العثمانية متمردين عليها لكنهم لم يتمردوا على مواقفها السياسية من إيران. اليوم يقول بعض الأتراك المجاورين لهذه الأخيرة إن ما فعله سليمان القانوني كان خطأ فادحا لأنه زرع بذور الضغينة بين البلدين، ويفسرون ذلك بأساليب التحريض التي استعملها المحيطون به لتأليبه على الصفويين، ففي النهاية رجع كلاهما إلى حجمه داخل مساحة جغرافية تناسب مفهوم الدولة الحديثة، لكن التاريخ لم ينس.

اليوم اختلفت المعادلة، تركيا تركض نحو إيران للمصالحة والشراكة الإقليمية بسبب عمق التحديات المحيطة بالمنطقة، بينما العرب يركضون لقتالها. والفرق بين الإثنين أن تركيا تعرف كيف تضمن مصالحها، فهي بلد يقع على الحافة بين أوروبا وآسيا، وتدرك بأن وجودها في أوروبا لا بد فيه من الاتحاد الأوروبي، ووجودها في آسيا لا بد فيه من إيران، أما العرب فقد اختزلوا المعادلة، فكونهم عربا لا بد لهم من اليمن، ولذلك ذهبوا هنالك لقتال إيران.

ظلت لعبة التوازنات السياسية بين الفرس من جهة والعثمانيين والعرب من جهة ثانية منذ قرون عدة تقوم على منع إيران من التمدد غربا. ما يفسر لنا أن الصراع في عمقه صراع قومي أن تمدد إيران شرقا، إلى البلدان المسلمة في آسيا، لا يقلق العرب، عكس ما عليه الحال في ما لو تمددت غربا حيث الخليج والعالم العربي، رغم أن الشرق شرق إسلامي، هذا يعني أن هناك تفاهما ضمنيا مسكوتا عنه بفعل عوامل تاريخية بين الطرفين على رسم مناطق النفوذ الواضحة التي لا ينبغي تعديها، وهذا ما يجعل العرب عندما يخاصمون إيران يخاصمونها على أساس أنهم عرب بالدرجة الأولى، وهو نفس ما يحدث مع إيران التي تفعل ذلك من منطلق انتمائها القومي إلى الأرومة الفارسية.

إنه واقع تاريخي تكرس بفعل الاستعادة المستمرة للتقاليد القومية داخل الإسلام الواحد، وهو الواقع نفسه الذي شكل واحدا من مبررات الحركة القومية في بداية القرن العشرين، وهو أيضا ما يفسر لنا أنه بالرغم من خطاب التقريب بين السنة والشيعة، وبالرغم من فتوى الأزهر الشهيرة حول اعتبار المذهب الإثني عشري مذهبا كسائر المذاهب السنية، بقيت المشكلة قائمة لأن التشيع أخذ طابعا إيرانيا في نهايات القرن الماضي، بينما تلك الفتوى الشهيرة صدرت قبل الثورة الإيرانية، وهذا جوهر الإشكال.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.